وحضرتُه مرة، صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفتَ إلي، وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد الغداء، سقطت قوتي. أو كلاماً قريباً من هذا (?).

وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها؛ لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر (?).

ولقد شاهدت من فراسته أموراً عجيبة، وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم، ووقائع فراسته تستدعي سِفراً ضخماً (?).

وسمعته يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها، لا يدخل جنة الآخرة.

وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي، لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة (?).

وكان يقول- في محبسه في القلعة-: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً، ما عدل عندي شكر هذه النعمة.

أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير. ونحو هذا (?).

وكان يقول- في سجوده وهو محبوس-: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك ما شاء الله (?).

وقال لي مرة: المحبوس: من حُبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه.

ولما دخل إلى القلعة، وصار داخل سورها، نظر إليه وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13] (?).

وكان يعالج بآية الكرسي، وكان يأمر بكثرة قراءتها المصروعَ، ومن يعالجه بها، وبقراءة المعوذتين (?).

وكان صغيراً عند بني المنجا، فبحث معهم، فادَّعوا شيئاً أنكره، فأحضروا النقل، فلما وقف عليه، ألقى المجلد من يده غيظاً، فقالوا له: ما أنت إلا جريء؛ ترمي المجلد من يدك، وهو كتاب علم؟!

فقال سريعاً: أيما خير؛ أنا أو موسى؟

فقالوا: موسى.

فقال: أيما خير؛ هذا الكتاب، أو ألواح الجوهر التي كان بها العشر كلمات؟

قالوا: الألواح.

فقال: إن موسى لما غضب، ألقى الألواح من يده. أو كما قال (?).

وكان إذا سئل عن مسألة حكمية، ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة إذا قَدَر، ومأخذ الخلاف، وترجيح القول الراجح، وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته، فيكون فرحه بتلك المتعلقات واللوازم أعظم من فرحه بمسألته. وهذه فتاويه- رحمه الله- بين الناس، فمن أحب الوقوف عليها رأى ذلك.

وكان خصومه يعيبونه بذلك؛ ويقولون: سأله السائل عن طريق مصر- مثلاً- فيذكر له معها: طريق مكة والمدينة وخراسان والعراق والهند! وأي حاجة بالسائل إلى ذلك؟!

ولعمر الله! ليس ذلك بعيب، وإنما العيب الجهل والكبر.

ورأيت شيخنا يتحرى في فتاويه مهما أمكنه، ومن تأمل فتاويه وجد ذلك ظاهراً فيها (?).

وشهدته إذا أعيته المسائل، واستصعبت عليه؛ فرَّ منها إلى التوبة والاستغفار، والاستغاثة بالله، واللجأ إليه، واستنزال الصواب من عنده، والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدًّا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه، بأيتهن يبدأ.

ولا ريب أن من وفق لهذا الافتقار علماً وحالاً، وسار قلبه في ميادينه بحقيقة وقصد، فقد أعطي حظه من التوفيق. ومن حُرِمَه، فقد منع الطريق والرفيق (?).

وكان إذا أشكلت عليه المسائل، يقول: يا معلم إبراهيم! علمني. ويكثر الاستعانة بذلك؛ اقتداء بمعاذ بن جبل رضي الله عنه؛ حيث قال لمالك بن يخامر السكسكي عند موته؛ وقد رآه يبكي؛ فقال: والله! ما أبكي على دنيا كنت أصيبها منها، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك، فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (إن العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما، وجدهما، اطلب العلم عند أربعة: عند عويمر أبي الدرداء، وعند عبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وذكر الرابع، فإن عجز عنه هؤلاء، فسائر أهل الأرض عنه أعجز، فعليك بمعلم إبراهيم - صلوات الله عليه -) (?).

قال ابن القيم -رحمه الله-: حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). وكان شيخنا- يعني شيخ الإسلام ابن تيمية- كثير الدعاء بذلك (?).

تم اقتباسه وتهذيبه والتصرف فيه من كتاب: (سماعات ابن القيم من شيخ الإسلام ابن تيمية) لسهيل بن عبد الله السردي، نشر: دار النوادر، ط1، 1431هـ، (ص 343 - 373)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015