فلم يراع القرآن حين أراد أن يبين مهمة الرسل في تعليق القلوب بالله تعالى معنى الهروب من استبداد الخلق للخلق كأساس، ولم يجعل مهمة الرسل المركزية بيان منزلة الحرية أو بيان حاكمية الله تعالى على الخلق، فالعباد لا يتعلقون بالله لأنه حاكم عليهم فقط، ولا يتعلقون به لأنهم أحرار ليسوا عبيدا لأحد فقط، وإنما يتعلقون به سبحانه لأنه هو الذي يستحق الحب والإجلال والذل له والخوف والرجاء منه، يتعلقون به لأنه خالقهم ورازقهم ومحسن إليهم ورحيم بهم فهو أهلٌ لأن يتعلق به، يتعلقون به لأنه متصف بالكمال من كل وجه، فهذه هي المعاني التي كانت محور دعوة الرسل وأساس منطلقهم في الرسالة، فالمنطلق الأصلي في تعلق الناس بربهم هو أنهم أدركوا كماله واستحقاقه للعبودية لا أنهم تحصلوا على الحرية وانتصروا على الاستبداد.
ونحن إذا رجعنا إلى القرآن والسنة نجد أن الشريعة أكثرت من تفعيل مبدأ العبودية في بيان العلاقة بين الله وخلقه، وكانت تستعمل الألفاظ وتبرز المعاني التي تتضمن العلاقة الروحية الرفيعة بين الله وبين خلقه، وتشيع بين المسلمين الألفاظ التي تغرس محبة الله ومخافته ومراقبته وتعظيمه، ولم تستعمل الألفاظ الأخرى التي لا تؤدي إلى تلك المعاني الشريفة كلفظ الحاكمية مثلاً.
والذي يرجع إلى نصوص الشريعة ويقرأها قراءة تأمل وتدبر، ويحاول أن يستخلص الأهداف الأصلية لدعوة الرسل سيخلص بسهولة إلى أن المرتكز الصلب في دعوتهم هو الحب الإلهي والرضا الرباني، وسيجد أن حجر الزاوية في الإسلام هو التعلق بالله تعالى والارتباط به بمفهوم العبادة دون غيره من المفاهيم.
وسيدرك أن هذا المعنى هو الغاية من الرسالات وهو المقدم على كل غاية، وسيكتشف أنه الهدف الذي ينبغي أن يكون بارزا ظاهرا للعيان، ولا يجوز لأي غرض آخر أن يزاحمه في المحورية والمركزية، وفي بيان اهتمام القرآن بمفهوم العبودية يقول ابن القيم: (غالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد -توحيد الخبر وتوحيد الإرادة- بل نقول قولاً كلياً: إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد، شاهدة به، داعية إليه، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع كل ما يعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته في نهيه وأمره، فهي حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم) (المدارج 3/ 449)، فالقرآن كله مشتغل بالله تعالى، حتى يتعلق الناس به وينصرفوا عن كل ما سواه.
فالقرآن لما أراد أن يبين الغاية من خلق الناس أبرز مفهوم العبودية للعيان، فقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} [الذاريات:56].