عبد الرحمن بن ناصر السعدي (1376هـ)
نشر عام 1367هـ
[قال المنصوح] .. أريد أن تدلني على طريق يجمع بين السعادة الدنيوية والسعادة الأخروية، لأن نفوس من تربَّى وتخلَّق بأخلاق هؤلاء لا ترجع عما ألفته إلا بأمر قوي؛ إما بترغيب وهوى يجذبها، وإما بترهيب وخوف يقمعها.
فقال له صاحبه الناصح: والله لقد أدركت في هذا الدين مطلوبك، وفيه والله كل مرادك ومرغوبك، فإنه الدين الذي جمع بين سعادة الدنيا والآخرة، وفيه اللذات القلبية والروحية والجسدية، ولا تفقد من مطالب النفوس الحقيقية شيئاً إلا أدركته؛ ولا من أنواع المسرات شيئاً إلا حصلته، ففيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وسأوضح لك ذلك؛ فاعلم أن أصول اللذات المطلوبة:
أولاً: راحة القلوب وسكونها وطمأنينتها وفرحها وبهجتها وزوال همومها وغمومها.
ثانياً: القناعة والطمأنينة بما أُوتيه العبد من المطالب الجسدية.
ثالثاً: استعمال ذلك على وجه يحصل به السرور والاغتباط.
فهذه الأمور الثلاثة من رُزِقها واستعملها على وجهها فقد نال كل ما يتنافس فيه المتنافسون، وأدرك كلَّ ما تعلَّق به طمع الطامعين، فإن جميع اللذات ترجع إلى ما ذكرنا.
فأما لذات القلوب وحصول سرورها وزوال كدرها؛ فإنما أصل ذلك بالإيمان التام بما دعا الله عباده إلى الإيمان به من الإيمان بتوحده بجميع نعوت الكمال، وامتلاء القلب من تعظيمه وإجلاله، ومن التأله له وعبوديته والإنابة إليه، وإخلاص العمل الظاهر والباطن لوجهه الأعلى، وما يتبع ذلك من النصح لعباد الله ومحبة الخير لهم، وبذل المقدور من نفعهم والإحسان إليهم، والإكثار من ذكر الله والاستغفار والتوبة، فمن أوتي هذه الأمور فقد حصل لقلبه من الهداية والرحمة والنور والسرور وزوال الأكدار والهموم والغموم ما هو نموذج من نعيم الآخرة. وأهل هذا الشأن لا يغبطون أرباب الدنيا والملوك على لذاتهم ورئاساتهم، بل يرون ما أعطوه من هذه الأمور يفوق ما أعطيه هؤلاء بأضعاف مضاعفة. وهذا النعيم القلبي لا يعرفه حق المعرفة إلا من ذاقه وجرَّبه فإنه كما قيل:
من ذاق طعم نعيم القوم يدريه
ومن دراه غدا بالروح يشريه
فهذا إشارة لطريق هذا النعيم القلبي الذي هو أصل كل نعيم.
وأما الأمر الثاني؛ فإن الله أعطى العباد القوة والصحة، وما يتبع ذلك من مال وأهل وولد وخول [أي: حَشَمُ الرجُل وأتباعه] وغيرها. والناس بالنسبة لهذه الأشياء نوعان؛ قسم صارت هذه النعم وتلقوها على وجه الشكر لله، والاغتباط بفضله، وتناولوها على وجه الاستعانة بها على طاعة المنعم، وعلموا أنها من أكبر الوسائل لهم إلى رضى ربهم وخيره وثوابه إذا استعملوها فيما هُيِّئت له وخُلِقت له، وقد رضوا بها عن الله كلَّ الرضى، فإنهم علموا أنها من عند الله الذي له الحكمة التامة في جميع أقضيته وأقداره، وله الرحمة الواسعة في جميع تدابيره، وله النعمة السابغة في كل عطاياه، وهو أرحم بهم من الخلق أجمعين، فحيث علموا العلم اليقيني صدورها ممن هذا شأنه قنعوا بما أعطوه منها؛ من قليل وكثير كلَّ القناعة، وسكنت قلوبهم عن التطلع والتطلب لما لم يقدر لهم. ومتى حصلت الطمأنينة والقناعة والرضى عن الله بما أعطى فقد حصلت الحياة الطيبة، فإذا أدركت حق الإدراك نعتهم هذا عرفت أن نعيم الدنيا في الحقيقة هو نعيم القناعة برزق الله، وطمأنينة القلوب بذكر الله وطاعته. إن الواحد من هؤلاء لو لم يكن عنده من هذه الأمور؛ وهي القوة والصحة، والمال والأهل والولد، وتوابع ذلك، إلا الشيء القليل، لكان في راحة وسرور من جهتين: جهة القناعة، وعدم تطلع النفس وتشوفها للأمور التي لم تحصل، وجهة ما ترجوه من ثواب الله العاجل والآجل على هذه العبادة القلبية التي تزيد على كثير من العبادات البدنية. فإن التعبد لله بمعرفة نعمه، والاعتراف بها، والرضى بها، والرجاء لله أن يديمها ويتمها، وأن يجعلها وسيلة إلى نعم أخرى، وأن يجعلها طريقاً للسعادة الأبدية، لا ريب أن هذه الأحوال القلبية من أفضل الطاعات وأجلِّ القربات.
فكم بين سرور هذا الذي تعبَّد بروح الدين وحصلت له الحياة الطيبة، وبين من تلقَّى هذه النعم بالغفلة وعدم الاعتراف بنعمة المنعم، وشقى بهمومها وغمومها، وكان إذا حصل له شيء من مطالب النفوس لم يرض به، بل تشوَّف إلى غيره، وتطلَّع لسواه، فهذا يتنقل من كدر إلى كدر آخر؛ لأن قلبه قد تعلَّق تعلقاً شديداً بمطالب الجسد، فحيث جاءت على خلاف ما يؤمِّله ويريده، قلق أشد القلق، وهو لا يزال في قلق مستمر؛ لأن المطالب النفسية متنوعة جدًّا، فلو وافقه واحد لم يوافقه الآخر، ولو أرضاه واحد كدَّره الآخر، وربما اجتمع في الشيء الواحد سرور من وجه، وحزن من وجه آخر، فصفوه ممزوج بكدره، وسروره مختلط بحزنه، فأين الحياة الطيبة لهذا؟!
وإنما الحياة الطيبة لأرباب البصائر والحجى الذين يتلقَّونها كلها بالقبول والقناعة والرضى.
وأما الأمر الثالث، وهو جهة استعمال هذه النعم؛ فصاحب الدين الصحيح يتناولها على وجه الشكر لله على نعمه، والفرح بفضله، وينوي بها التقوي على ما خُلِق له من عبادة الله وطاعته، وينفقها محتسباً بها رضى الله وفضله وخلفه العاجل والآجل. ويعلم أنه إذا أنفق على نفسه وأهله أو ولده أو من يتصل به، فإنما نفقته صادفت محلها، ووقعت موقعها، فلم يتثاقل كثرة النفقة في هذا الطريق؛ لأنه يقول معتقداً: هذا أولى ما بذلت فيه مالي، وهذا ألزم ما قمت به من الواجبات والفروض، وهذا خير ما قمت به من المستحبات، وهذا أعظم ما أرجو له الخلف من الله، حيث يقول وهو الكريم الوفي: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]. ولا يزال نصب عينيه احتساب الأجر في سعيه بكسبه وفي مصرفه أجناس ذلك وأنواعه وأفراده، متفطناً لقوله: (على أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْت عليها حتى ما تجعله في في امرأتك).
فمن كان هذا وصفه فإن لذاته الدنيوية هي اللذات الحقيقية السالمة من الأكدار مهما يرجو من الثواب العاجل والآجل من الله، ومن كانت هذه صفته سهل عليه الأخذ من حلها، ووضعها في محلها، ويسرت له أموره غاية التيسير.
وأما من استعمل هذه النعم على وجه الشره والغفلة ولم يفكر في الاعتراف بفضل الله في كل الأوقات وبنعم الله، ولم يفرح بالنعم؛ لأنها من فضل الله، بل فرح بها فقط لموافقة غرضه النفسي، ولا نوى بها الاستعانة على طاعة الله، ولا احتسب في نيلها وصرفها على المنفَق عليهم الأجر والثواب، فمن كان هذا وصفه، فإن الكدر والحزن له بالمرصاد؛ فإنه إذا فاتته بعض الشهوات النفسية حزن، وإن أدرك ما أدركه منها، ولم يكن على ما في خاطره من كل وجه حزن، وإن أراد منه ولده ومن يتصل به نفقة أو كسوة واجبة أو مستحبة حزن، ولم تخرج منه إلا بشق الأنفس، وإن خرجت منه خرج معها بضعة من سرور قلبه؛ لأنه يحب بقاء ماله ويحزن لنقصه على أي وجه كان، وليس عنده من الاحتساب ما يهون عليه الأمر، هذا إن كان غير بخيل، فإن كان شحيح النفس مطبوعاً على البخل، فإن حياته مع أولاده وأهله والمتصلين به حياة شقاء وعذاب وأكدار متواصلة وأحزان مستمرة، لا إيمان عنده يهون عليه النفقات، ولا نفس سخية لا تستعصي عن نيل المكرمات، فيا له من عذاب حاضر وعذاب مستمر! فأين هذا من ذاك الذي حصلت له الحياة الطيبة بأكملها؟!
هذا كله بالنظر إلى هذه الأمور الثلاثة التي هي أصل اللذات عند العقلاء، قد اتضح لنا أن صاحب الإيمان الصحيح هو الذي فاز باللذات الحقيقية، وسلم من المكدرات.
ثم إذا عطفنا النظر إلى الطوارئ البشرية التي لابد لكل عبد منها؛ وهي المصيبات التي تعتري العباد من الأمراض المتنوعة، وموت الأحبة، وفقد الأموال ونقصها، ووقوع المكاره بمن تحب وزوال المحاب، وغيرها من أنواع المصائب؛ دقيقها وجليلها، رأيت المؤمن حقًّا قد تلقَّاها بقوة وصبر واحتساب، وقد قام لها بارتقاب الأجر والثواب، وعلم أنها تقدير العزيز العليم، وأنها أقضيته صدرت من الرب الرحيم؛ فهان عليه أمرها وخفت عليه وطأتها، فإنه إذا فكر فيما فيها من الآلام الشاقة قابلها بما تتضمنه من تكفير السيئات، وتكثير الحسنات، ورفعة الدرجات، والتخلق بأخلاق الكرام والقوة والشجاعة، وإذا أنهكت بدنه وماله رآها مصلحة لقلبه وروحه.
فإن صلاح القلوب بالشكر لله على نعمائه، والصبر على بلائه، وانتظار الفرج من الله إذا ألمت الملمات، واللجوء إلى الله عند جميع المزعجات والمقلقات، فأقل الأحوال عند هذا المؤمن أن تتقابل عنده المصائب والمحاب، والأفراح والأتراح، وقد تصل الحال بخواص المؤمنين إلى أن أفراحهم ومسراتهم عند المصيبات تزيد على ما يحصل فيها من الحزن والكدر الذي جبلت عليه النفوس، فأين هذه الحال من حال من تلقَّى المصيبات التي لابد للخلق منها بقلب منزعج مرعوب، وخشعت نفسه المهينة لما فيها من الشدائد والكروب، فبقيت الحسرات تنتاب قلبه وروحه، وزادت مصائب قلبه على مصائب بدنه، ليس عنده من الصبر وارتقاب الثواب ما يخفف عنه الأحزان، ولا من الإيمان ما يهون عنه الأشجان، تعتريه المصائب فلا تجد عنده ما يخففها، فتعمل عملها في قلبه وروحه وبدنه وأحواله كلها .. القلب مليء من الهم والغم والألم، والخوف السابق واللاحق قد ملأ نفسه فانحل لذلك لبه وانحطم، وقد ضعف توكله على الله غاية الضعف، حتى صار قلبه يتعلق بمن يرجو نفعه من المخلوقين، فيا لها من مصائب دنيوية اتصلت بالمصائب الدينية والخلقية، وتراكم بعضها فوق بعض حتى صار عنده أعظم من الجبال الرواسي. فوالله لو علم أهل البلاء والمصائب بما في الإيمان والروح والتسلية والحياة الطيبة لسارعوا إليه، ولو في هذه الحال التي هم فيها مضطرون إلى ما يخفف عنهم آلامها، ولا يجدونه إلا في الإيمان الصحيح الحقيقي وما يدعو إليه.
ومما يتعلق به سرور الحياة ونعيمها، أو همها وغمها، معاشرة الخلق على اختلاف طبقاتهم، فمن عاشرهم بما يدعو إليه الدين استراح، ومن عاشرهم بحسب ما تدعو إليه الأغراض النفسية، فلابد أن يكون عيشه كدراً، وحياته منغصة.
وتوضيح ذلك أن الناس ثلاثة أصناف؛ رئيس، ومرؤوس، ونظير.
أما من له رياسة حكم، أو ثروة، وله أتباع وحاشية، فله معهم حالان؛ حالة فيما يفعله معهم، وحالة فيما يصيبه من أتباعه من خير وشر، وموافق للطبع ومخالف له، فإن هو حكم الدين والشرع في الحالتين استراح، وله أجر من الله؛ إذ استعمل العدل معهم، واستعمل النصح والإحسان، وقابل المسيء منهم بالعفو، وشكرهم على فعل المعروف والخير، مبتغياً بذلك وجه الله.
وأيضاً فإنه إذا تأمل فيما فعله من خير اطمأنت نفسه، وانشرح صدره، فأين هذا من الرئيس الذي لا يبالي بظلم الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ولا يبالي بسلوك طرق العدل والإنصاف، وليس له صبر على أية أذية تصيبه من رعيته، فهو مع أتباعه في نكد مستمر، ورعيته قد مُلئت قلوبهم من مقته وبغضه، يتربصون به الدوائر والفرص، حتى إذا وقع في أقلِّ شيء أعانوا عليه أعدى أعدائهم، فهو معهم غير مطمئن على حياته ولا على نعمته، لا يدري متى تفجؤه البلايا، ليلاً أو نهاراً! .. هذه حالة الرئيس على وجه الإجمال ..
وأما حالة المرؤوس؛ فإن أطاع الدين في وظيفته، وأطاع حاكمه أو سيده، أو والده، واستعمل الآداب الشرعية في معاملته، والأخلاق المرضية، فهو مع طاعته لله ولرسوله قد استراح وأراح، وطابت عنه نفس رئيسه، وأمن عقوبته، وأمَّل إحسانه وبرَّه ومحبته.
وأما من تعدى طوره وعصى متبوعه والتوى، فإنه لا يزال متوقعاً لأنواع المضار، يمشي خائفاً وجلاً، لا يقرُّ له قرار، ولا يستريح له خاطر.
وأما حالة النظير المساوي؛ فإن جمهور من تعاشرهم من الخلق إذا خالقتهم بالخلق الحسن، اطمأنت نفسك، وزالت عنك الهموم؛ لأنك تكتسب بذلك مودتهم، وتخمد عداوتهم، مع ما ترجوه من عظيم ثواب الله على هذه العشرة التي هي من أفضل العبادات، فإن العبد يبلغ بحسن خلقه، درجة الصائم القائم .. وحسن الخلق له خاصية في فرح النفس، لا يعرف ذلك حق معرفته إلا المجربون ..
فأين حال هذا ممن عاشر الناس بأسوأ الأخلاق؛ فخيره ممنوع، وشره غير مأمون، وليس له أقل صبر على ما يناله من المكدرات، فهذا قد تنغصت عليه حياته، وحضرته همومه وحسراته، فهو في عناء حاضر، ويخشى من الشقاء الآجل ..
وأما معاشرته مع أهله وأولاده ومن يتصل به، فإنه يتأكد عليه القيام بالحقوق اللازمة تامة لا نقص فيها ولا تبرم، فمن عامل هؤلاء بما أمر الله ورسوله، راجياً بقيامه به ثواب ربه ورضاه، عاش معهم عيشة راضية، ومن كان معهم من نكد وسوء خلق؛ مع الصغير والكبير، يخرج من بيته غضبان، ويدخل على أهله وولده متكدراً ملآن، فأي حياة لمن كانت هذه حاله؟! وما الذي يرجوه حيث ضيَّع ما فيه فرحه ومسراته؟!
وأما عشرته مع معامليه، فإن استعمل معهم النصح والصدق، وكان سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى، حصلت له الرحمة، وفاز بالشرف والاعتبار، واكتسب مودة معامليه ودوام معاملتهم، ولا يخفى ما في ذلك من طيب الحياة، وسرور النفس، وما في ضدها من سوء الحال وسقوط الشرف، وتنغص الحياة.
والفارق بين الرجلين هو الدين، فصاحب الدين منبسط النفس، مطمئن القلب. فقد تبين لك أن السعادة واللذة الحقيقية بجميع أنواعها تابعة للدين ..
واعلم يا أخي أن الدين نوعان:
أحدهما: أعمال وأحوال وأخلاق دينية ودنيوية، وكما ذكرنا أنه لا سبيل إلى حصول الحياة الطيبة إلا بالدين.
والثاني: علوم ومعارف نافعة، وهي علوم الشرع والدين، وما يعين عليها ويتوسل إليها به، فالاشتغال بها من أجلِّ العبادات، وحصول ثمرتها من أكمل اللذات، ولا يشبهه شيء من اللذات الدنيوية، واعتبر ذلك بحال الراغبين في العلم تجد أكثر أوقاتهم مصروفة في تحصيل العلم، فيمضي الوقت الطويل، وصاحبه مستغرق فيه يتمنى امتداد الزمن، وهذا عنوان اللذة، فإن المشتاق يقصر عنده الوقت الطويل، ومن ضاق صدره بشيء يطول عليه الوقت القصير؛ وذلك أن صاحب العلم في كل وقت مستفيد علوماً يزداد بها إيمانه، وتكمل بها أخلاقه، والمتصفح للكتب النافعة، لا يزال يعرض على ذهنه عقول الأولين والآخرين، ومعارفهم وأحوالهم الحميدة وضدها، ففي ذلك معتبر لأولي الألباب .. فكم من قصة تمرُّ عليك في الكتب تكتسب بها عقلاً جديداً، وتسليك عند المصائب بما جرى على الفضلاء، وكيف تلقوها بالرضا والتسليم، واغتنموا الأجر من العليم الحكيم.
والعلم يعرفك طرقاً تدرك بها المطالب، وتدفع بها المكاره، والمضار، والعقل عقلان؛ عقل غريزي، وهو ما وضعه الله في الإنسان من قوة الذهن في أمور الدين والدنيا. وعقل مكتسب، إذا انضم إلى العقل الغريزي ازداد صاحبه حزماً وبصيرة، فكما أن العقل الغريزي ينمو بنمو الإنسان حتى يبلغ أشده، فكذلك العقل المكتسب له مادتان للنمو؛ مادة الاجتماع بالعقلاء والاستفادة من عقولهم وتجاربهم، تارة بالاقتداء، وتارة بمشاورتهم ومباحثتهم، فكم ترقَّى الرجل بهذه الحال إلى مراقي الفلاح، ولهذا كان انزواء الرجل عن الناس يفوته خيراً كثيراً، ونفعاً جليلاً، مع ما يحدثه الاعتزال من الخيالات وسوء الظن بالناس، والإعجاب بالنفس الذي يعبر عن نقص الرجل، وربما ضرَّ البدن فإن مخالطة الناس تفتح أبواباً من المصالح، والمسالك، وتقوي قلبك، وفي ضعف القلب ضرر على العقل، وضرر على الدين، وضرر على الأخلاق، وضرر على الصحة.
وينبغي للإنسان أن يعامل الناس، بحسب أحوالهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحسن خلقه مع الصغير والكبير، قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199]. أي خذ ما صفا لك من أخلاق الخلق، ودع عنك ما تعسر منها .. فيجالس أبناء الدنيا بالأدب والمروءة، والأكابر بالتوقير، والإخوان والأصحاب بالانبساط، والفقراء بالرحمة والتواضع، وأهل العلم والدين بما يليق بفضلهم .. فصاحب هذا الخلق الجليل تراه مبتهج النفس في حياة طيبة.
وأما المادة الثانية للعقل المكتسب فهي الاشتغال بالعلوم النافعة، فتستفيد بكل قضية رأيا جديداً، وعقلاً سديداً، ولا يزال المشتغل بالعلم يترقى في العلم والعقل والأدب.
والعلم يعرِّفك بالله، وكيف الطريق إليه، يعرفك كيف تتوسل بالأمور المباحة إلى أن تجعلها عبادة تقربك إلى الله.
والعلم يقوم مقام الرياسات والأموال، فمن أدرك العلم فقد أدرك كل شيء، ومن فاته العلم فاته كل شيء. وكل هذا في العلوم النافعة.
وأما كتب الخرافات والمجون فإنها تحلل الأخلاق وتفسد الأفكار والقلوب؛ بحَثِّها على الاقتداء بأهل الشرِّ، وهي تعمل في الإيمان والقلوب عمل النار في الهشيم.
فلما تلا النصيح لصاحبه هذه المواضيع، وبرهن عليها، قال له المنصوح: والله لقد انجلى عني ما أجد في أول موضوع تلوته علي، وانزاح عني الباطل في شرحك الأول، وإن مجلسك يا أخي ونصيحتك بهذه الطريقة النافعة تعدل عندي الدنيا وما عليها، فأحمد الله أولاً حيث قيَّضك لي، وأشكرك شكراً كثيراً حيث وفيت بحق الصحبة، ولم تصنع ما يصنعه أهل العقول الضيقة الذين إذا رأوا من أصحابهم ما يسوؤهم قطعوا عنهم حبل الوداد في الحال، وأعانوا الشيطان عليهم، فازداد بذلك الشرُّ عليهم، وضاع بينهم التفاهم.
وإني لا أنسى جميل معروفك حيث رأيتني سادراً في المهامه [أي: القفار من الأرض]، مغروراً بنفسي معجباً برأيي فأريتني بعيني ما أنا فيه، وأوقفتني بحكمتك على الهلاك الذي وقعت فيه، فالآن أستغفر الله مما مضى وأتوب إليه، وأسأله الإعانة على سلوك مرضاته، وأفزع إليه أن يختم بالصالحات أعمالي، وأحمد الله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، فإنه مولى النعم، دافع النقم، غزير الجود والكرم.