(عرض ونقد)
9 شوال 1431هـ
ظهرت في الآونة الأخيرة بعض الكتب التي تحاول أن تلصق بالسلف القول بالتفويض والتأويل، وتنسب القول به إلى أهل السنة والجماعة، زعماً أن المراد بهذا الوصف هم الأشاعرة والماتريدية، ومنها كتاب (القول التمام بإثبات التفويض مذهبا للسلف الكرام) وكتاب (أهل السنة الأشاعرة) وسنقوم بعرضهما تباعا وبيان ما عليهما من مآخذ.
وكتاب هذا الشهر هو (أهل السنة الأشاعرة: شهادة علماء الأمة وأدلتهم) جمع وإعداد حمد السنان وفوزي العنجري، إصدار دار الضياء، وقد قدَّم للكتاب وقرَّظه عدد من المشايخ ممن ينتمون إلى المذهب الأشعري، ومنهم محمد حسن هيتو، ومحمد سعيد رمضان البوطي، وعلي جمعة، ووهبة الزحيلي، وعلي الجفري، وغيرهم.
في المقدمة كان الكلام عن سبب تأليف الكتاب وأصله وعن مصطلح الأشاعرة مع التعريف بالأشعري، ثم تناول المؤلفان تحت عنوان (هل مات الإمام على عقيدة غير العقيدة التي كان عليها بعد توبته من الاعتزال) تناولا ثلاثة أمور:
أولا: المراحل التي مر بها أبو الحسن الأشعري، وهل هي اثنان أم ثلاثة.
وثانيا: اتباعه في المرحلة الثانية لابن كلاب، وهل كان ابن كلاب من أهل السنة.
وثالثا: المرحلة الثالثة من حياة أبي الحسن وكتابه (الإبانة).
وتكلما بعد ذلك عن دعوى رجوع بعض الأئمة عن عقيدة الأشاعرة.
وتحت عنوان (أهل السنة والجماعة) حشد الكاتبان كثيراً من النقول ليثبتا بها أن الأشاعرة من أهل السنة، ثم أردفا ذلك بنقولات عن بعض المشايخ المعاصرين كحسن أيوب وسعيد حوى.
وبعد ذلك تكلما عن موضوع المتشابه عند السلف والخلف ومعناه، وذلك لتعلقه بمسألة التأويل لصفات الله، والتي يجيزها جمهور الأشاعرة والماتريدية.
ثم انتقل المؤلفان إلى موضوع آخر، وهو الخلاف في العقيدة، وهل كل خلاف في العقيدة يترتب عليه التفسيق والتكفير أو التبديع والتضليل، سواء كان في الأصول أو في الفروع، ومن خلاله تعرضا لمسألة الاتصال والانفصال بالنسبة لله، وكونه بائناً من خلقه بذاته، وذكرا أقوال العلماء في نفي الجهة عن الله وتنزيهه عن المكان.
ولما كانت مسألتا التأويل والتفويض من الموضوعات التي كثر فيها الخصام، واحتدم بسببها الخلاف تعرض المؤلفان لهما مع تقرير أن مذهب جمهور السلف هو التفويض، وبيَّنا بعده أن التأويل هو مذهب سلفي وعربي صحيح، وذكرا نماذج من تأويل العلماء لنصوص الصفات، وبعده نفيا التهمة التي ألصقت بالأشاعرة من التعطيل لصفات رب العالمين، وبيَّن المؤلفان حقيقة التعطيل، وقررا أن الأشاعرة برآء من التعطيل، وذكرا تأويلات للسلف لنصوص آيات الصفات.
وتدعيماً لمذهب الأشاعرة والماتريدية بيَّن المؤلفان أن الأشاعرة والماتريدية هم غالب الأمة، وذكرا بعض الأشاعرة من المفسرين والمحدثين والفقهاء واللغويين والأدباء وغيرهم، ثم ذكرا شيئا من فضائل الأشاعرة والماتريدية وجهودهم في الدفاع عن الدين والرد على المبتدعين، وذكرا الفتاوى والأقوال في فضلهم، ثم ذكرا عقيدة أهل السنة والجماعة- يقصدان الأشاعرة والماتريدية- في أسماء الله وصفاته، ثم كانت الخاتمة والتي قرر فيها المؤلفان أهل النتائج التي توصلا إليها ومنها:
- أن مصطلح أهل السنة والجماعة يراد به أهل الحديث والأشاعرة والماتريدية.
- أن المتشابه من نصوص الصفات ليس فيه إلا مذهبان صحيحان للعلماء هما التفويض والتأويل والاختلاف بينهما من الاختلاف الجائز.
- التأويل بشروطه شعار سني وهو ليس تعطيلاً.
هذه أهم النتائج التي توصل إليها المؤلفان.
ولا شك أن الكتاب عليه مؤاخذات كثيرة ولا يهولنك الأسماء التي قدمت له مقرظة لما يحتويه فكما قيل: لا تعرف الحق بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله.
فابتداء إدخال الأشاعرة والماتريدية في مصطلح أهل السنة والجماعة وإلصاق ما ذهبوا إليه بالسلف فيه نظر وذلك لمخالفتهم للسنة ومباينتهم لمذهب السلف في مسائل كثيرة كحقيقة الإيمان وما يتعلق به والأسماء والصفات ومصدر التلقي وغيرها، ويراجع كتاب (منهج الأشاعرة في العقيدة) للوقوف على هذه المخالفات.
ثم إن قولهما: إن السلف ليس لهم إلا مذهبان فقط في المتشابه من نصوص الصفات الأول التفويض وعليه جمهورهم والثاني التأويل وهو مذهب لبعضهم، وكلاهما يتفق على عدم حمل الكلام على حقيقته.
يجاب عنه بما نقله ابن عبد البر في (التمهيد) (7/ 145) من إجماع السلف على غير ذلك فقد قال: (أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقرَّ بها مشبه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة والحمد لله) بل إن كلام أبي الحسن الأشعري ناقض لكلامهما فقد قال في (الإبانة) (ص 139): حكم كلام الله تعالى أن يكون على ظاهره وحقيقته ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا بحجة ... كذلك قوله تعالى: {لما خلقت بيدي} على ظاهره أو حقيقته من إثبات اليدين ... بل واجب أن يكون قوله تعالى: {لما خلقت بيدي} إثبات يدين لله تعالى في الحقيقة غير نعمتين إذا كانت النعمتان لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم: فعلت بيدي. وهو يعني النعمتين. انتهى كلامه رحمه الله، وهو كاف في إبطال ما قرره الكاتبان. وهل كان خلاف السلف مع خصومهم من أهل البدع إلا على إثبات حقائق صفات الله تعالى، فلو كان الجميع متفقين على كونها من المجاز لما كان بين السلف والمعطلة خصومة.
ومن ظنَّ أن حقيقة الصفة الثابتة لله هي حقيقة صفة المخلوق فقد ضل، وذهب إلى ما لا يقره عقل ولا نقل، ولا تؤيده لغة، فالصفة تابعة للموصوف، فإذا كان لله ذات حقيقة وللمخلوق ذات حقيقة لم يلزم أن تكون حقيقة ذات الله هي حقيقة ذات المخلوق، ولا وجوده هو حقيقة وجود المخلوق؛ لأن الله عز وجل ليس كمثله شيء.
كذلك فإن نسبة المؤلفين التفويض إلى السلف خطأ عليهم فنصوص الكتاب والسنة وعبارات السلف صريحة في إثبات معاني الصفات، وقد أمر الله بتدبر كتابه وعاب على اليهود الذين لا يعرفون منه إلا مجرد التلاوة من غير فهم ولا فقه فقال: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون}، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم القرآن لأصحابه بلفظه ومعناه، ولم يكن الواحد من الصحابة يجاوز العشر آيات من القرآن حتى يتعلم ما فيها من العلم والعمل، وإذا كان الصحابة أحرص الناس على معرفة الحلال والحرام فهم لمعرفة صفات خالقهم أشد حرصاً. كذلك فإن القول بالتفويض يستلزم تجهيل النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة.
والعجب أن المؤلفين يصرفان قول السلف (بلا كيف) إلى أنه يفهم منه (بلا معنى) ويقولان: لأن لفظ الـ (كيف) هنا مستفهم به عن المعنى. وهذا عجيب فـ (كيف) يستفهم بها عن الحال والكيفية والماهية لا الاستفهام عن المعاني.
وكذلك فإن قولهم هذا مخالف للعقل فإثباتنا معنى الصفة لا يستلزم العلم بكيفيتها وحقيقة ما هي عليه في الخارج، كما أن الجهل بكيفيتها لا يستلزم الجهل بالمعنى، فلا تلازم بين الأمرين، فالله عز وجل قد أخبرنا عن الجنة وما فيها من المآكل والمشارب والمساكن وغيرها هذا، وقد قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء. وقال الله في الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) [البخاري (3244) ومسلم (2824)]. فجهلنا بالكيفيات لا يستلزم جهلنا بمعاني ما وصفت به وإثبات حقيقتها، فإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها توافق في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا ومع ذلك ليست مماثلة لها، بل وبينهما من المباينة ما لا يعلمه إلا الله، فالخالق سبحانه أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق.
ومنشأ قولهم بالتفويض هو ظنهم أن آيات الصفات من المتشابه. ولا يعلم عن أحد من السلف ولا من الأئمة أنه جعل صفات الله من المتشابه
كذلك مما يؤخذ على الكاتبين تحريف بعض صفات الله وتعطيلها بزعم تنزيه الله سبحانه، ومن ذلك إنكار علو الله على عرشه حقيقة بذاته، مع أنه منقول عن كثير من السلف، بل حكى غير واحد الإجماع على ذلك منهم السجزي والمزني وغيرهما. وقد تنوعت الدلالات في القرآن على علو الله، فمنها التصريح بالفوقية، والعروج إليه، والصعود إليه، ورفع بعض المخلوقات إليه، والتصريح بالعلو المطلق، وتنزيل الكتاب، وأن الله في السماء، والتصريح بالاستواء إلى غير ذلك.
وقد حاول المؤلفان التدليل على ما ذهبا إليه من إثبات التأويل بجمع ما أمكن من أقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم، فوقعا في العديد من الأخطاء ومنها:
- أنهما لم ينقلا عن السلف من الكتب المسندة، وإنما اكتفيا بالنقل من كتب المتأخرين بلا إسناد ولا عزو إلى مصدر هذه النقولات، ومثاله ما نقلا عن ابن عباس من تأويل مجيء الله سبحانه، فليس له أصل ولا إسناد ولا ذكره أحد من المصنفين أصحاب الرواية.
- أنهما لم يتحققا من ثبوت ما نسباه إلى السلف وصحته، ومثاله ما نقلا عن ابن عباس من تفسير الكرسي بالعلم فهذا لم يصح عن ابن عباس.
- أنهما ينقلان ما يوافق هواهما من كلام بعض السلف دون جمع كل كلامه في المسألة ليتبين معنى كلامه ويتضح مذهبه، كما فعلا في دعوى تأويل الإمام أحمد لصفة المجيء.
- أنهما ربما وضعا كلام بعض السلف في غير موضعه، كأن ينقلا كلاماً لبعضهم فيما ليس من آيات الصفات أو فيما اختلف على كونه من الصفات. فمثال الأول ما أوردا عن ابن عباس من تأويل لفظه (أيد) في قوله تعالى: {والسماء بنيناها بأيد} فليست الأيد هنا جمعاً لليد، بل معناها القوة، فهي ليست من آيات الصفات أصلاً وكذلك الجنب. ومثال الثاني تأويل لفظة الساق في قوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق}، وقد اختلف فيها السلف، واختلافهم ليس في إثبات الصفة لكن في كونها من آيات الصفات أم لا، وذلك لأن الساق جاءت في هذه الآية نكرة ولم يضفها الله عز وجل لنفسه.
كذلك مما يؤخذ على الكاتبين إلصاق مذهب الأشاعرة والكلابية بأئمة أهل السنة كالبخاري والطبري وغيرهما دون تحقيق وتمحيص، وإنما يعتمدان على حكاية أو قصة أو سلام وحفاوة بشخص معين ونحو ذلك، وليتهما رجعا إلى ما صنَّفه هؤلاء الأئمة ليعرفا عقيدتهم من خلال كتبهم.
كذلك مما يؤخذ على الكاتبين ادعاء أن عبد الله بن سعيد بن كلاب كان من أئمة أهل السنة، وأن الخلاف بينه وبين الإمام أحمد والسلف كان لفظيًّا، وهذه مغالطة، فالإمام أحمد اشتد نكيره على الكلابية، وقد بيَّن الأشعري في (مقالات الإسلاميين) (ص 5) أن الكلابية فرقة مباينة لأهل الحديث، بل قد صرح كثير من أهل العلم بمخالفة الأشعرية والكلابية لأهل السنة.
كذلك مما يؤخذ على الكاتبين التشكيك في صحة المطبوع من كتاب (الإبانة) لأبي الحسن الأشعري بعد أن أثبتاه من حيث أصله، لكن زعما أن أيدي التحريف قد نالته. وسبب دعواهما أن كتاب (الإبانة) يخالف ما استقر عليه مذهب الأشاعرة ويبطل طريقتهم.
فأما دعواهما هذه فيبطلها اتفاق النسخ الخطية المحفوظة لكتاب (الإبانة) في الأبواب والمسائل والألفاظ، كذلك اتفاق ما نقله الأئمة من هذا الكتاب مع المطبوع وهذا يعلم بمطابقة ما نقله البيهقي وابن عساكر وغيرهما من (الإبانة) مع المطبوع منه.
أما ادعاء التحريف لوجود اختلاف بين بعض النسخ في بعض الألفاظ فالجواب أن الاختلاف بين الألفاظ التي ذكرها الكاتبان لا تغير من المعنى ولا تبطله، بالإضافة إلى أن اختلاف الألفاظ بين النسخ أمر لا يسلم منه كتاب لاختلاف النساخ والرواة.
وأما استدلالهما على تحريف (الإبانة) بما هو مذكور فيه عن أبي حنيفة من القول بخلق القرآن. فيقال: هذا القول ذكره جمع من العلماء في كتبهم فهل يقال: إن هذه الكتب قد نالها التحريف ولا يعني هذا صحة ما نسب إلى أبي حنيفة بل الصحيح عنه هو قوله أن القرآن كلام الله غير مخلوق. لكن أردنا التنبيه إلى أن نسبة القول بخلق القرآن إليه مذكورة في كتب أهل السنة.
فهذه بعض المؤاخذات على هذا الكتاب مع إجمال الرد عليها، ومن أراد الاستزادة في التعرف على الأخطاء التي وقع فيها المؤلفان مع بيان الحق مدعماً بالدليل من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وسلف الأمة فليرجع إلى كتاب (الأشاعرة في ميزان أهل السنة: نقد لكتاب أهل السنة الأشاعرة شهادة علماء الأمة وأدلتهم) تأليف فيصل بن قزار الجاسم، فقد أجاد فيه وأفاد، وقد قرظه عدد من أهل العلم.