(عرض ونقد)
كلما أهلت أشهر الحج حنت الأفئدة إلى بيت الله، واشتاقت إليه الأنفس، وتجددت الرغبة في أداء مناسك الحج، وأقبلت الوفود من كل مكان يجمعها زمان واحد ومكان واحد.
وكتاب هذا الشهر متعلق بالحج وهو كتاب (افعل ولا حرج) للشيخ سلمان بن فهد العودة- حفظه الله- أراد به مؤلفه رفع الحرج عن المسلمين في موسم الحج، والحفاظ على أنفسهم، نظراً لما يتعرضون له من التزاحم الشديد، والذي ينتج عنه المشقة الشديدة والضرر الجسيم، فانتهج منهج التيسير في مناسك الحج، واختيار الأسهل من أقوال العلماء في مسائل الحج، والتوسعة على الحجيج، وهذا المنهج لم يرتضه كثير من أهل العلم لما يترتب عليه من آثار سيئة وعواقب وخيمة كضياع معالم الحج وعدم تعظيم شعائر الله خاصة مع ضعف التدين في هذا الزمان.
والكتاب قد قدم له الشيخ عبد الله بن منيع والشيخ عبد الله بن جبرين والشيخ عبد الله بن بيه والذي بسط القول في مقدمته- التي بلغت قرابة 30 صفحة- عن مقصد التيسير في الشريعة وفي الحج على وجه الخصوص وتوظيف اختلاف العلماء لرفع الحرج والمشقة.
عرض محتويات الكتاب:
بعد المقدمة- التي أشار فيها المؤلف إلى أن رسالته هذه ورقة مختصرة في مسائل الحج وتيسيراته، وأنها منتزعة من شرح كتاب الحج من (عمدة الفقه) - تناول المؤلف موضوع تيسيرات الحج من خلال سبعة عناوين:
1 - (ليشهدوا منافع لهم) أبرز فيه حِكَم الحج ومقاصده الشرعية، ومنها: إقامة ذكر الله، والتربية الربانية على أداء الواجب بإتقان وإخلاص، ورعاية حقوق الآخرين ومنازلهم، والتخفف من الدنيا وحظوظها إلى غير ذلك، وتعجب المؤلف من غفلة كثير من المسلمين عن قيم الحج ومراميه وآثاره في النفس والسلوك والحياة.
2 - (تكرار الحج) ناقش المؤلف فيه مسألة تكرار الحج لمن سبق له الحج ومدى ما يحدثه من آثار صعبة على المسلمين الذين يؤدون حج الفريضة- وليس النافلة- من شيوخ ونساء وضعفاء ومرضى، خاصة وأن المشاعر محدودة والزمان موقوت لا يتقدم ولا يتأخر، وأنه قد يرتكب بعض المسلمين مخالفات في سبيل تكرار الحج، وقد دعا المؤلف من أراد تكرار الحج أن يتصدق بقيمة حجة النافلة على إخوانه المسلمين، ويتصدق أيضا بمكانه بين المناسك لغيره؛ ليسهم في تخفيف الازدحام وتيسير الحج.
3 - (افعل ولا حرج) وقرر فيه أن الله عز وجل جعل في الحج سعة لا توجد في غيره من العبادات مستحسناً أن يكون شعار المفتي فيما لا نص فيه أو في جنس ما أفتى به النبي صلى الله عليه وسلم (افعل ولا حرج)، ثم ذكر صوراً من هذا التيسير في الحج، بل ذكر أن محظورات الحج فيها توسعة أيضاً، وضرب أمثلة على ذلك.
4 - (التيسير في أركان الحج) وانتهى فيه إلى أن المتفق عليه من أركان الحج ركنان هما الوقوف بعرفة والطواف، فأما الوقوف بعرفة فقال: إنه يحصل أداؤه بلحظة، وأنه لو دفع قبل الغروب أجزأه عند الأئمة خلافا لمالك مرجحاً أن الأقرب أنه لا شيء عليه، وأن خطأ الناس في الوقوف بعرفة في غير يومه يجزئ إذا أطبق الناس عليه.
وذكر عن الركن الثاني- وهو طواف الإفاضة- أنه لا يكون إلا بعد الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة، وأن وقته يبدأ بعد نصف الليل باعتبار المعذورين من الضعفة والنساء ومن معهم أو في حكمهم، وذكر أن للعلماء قولين في بداية الطواف: أحدهما بعد الفجر، والثاني بعد منتصف الليل، وأن الأمر في ذلك واسع. وذكر أنه يجوز تأخير الطواف مع طواف الوداع ويجزئ عنهما طواف واحد، وأنه يجوز تأخير الطواف إلى نهاية ذي الحجة ولو فعله بعده أجزأ.
ثم بيَّن أن القول بجواز الطواف على غير طهارة يخفف على الناس في الزحام، وأن الحاج إذا لم يتطهر وطاف أو أحدث أثناء الطواف فلا شيء عليه، وأما الحائض فإنها تطوف للضرورة إذا تأخر طهرها وخافت ذهاب رفقتها ولحقها الحرج.
5 - (التيسير في الرمي) وذكر فيه أنواعاً من التيسير:
أ- التيسير في موضع الرمي وذكر كلاماً للسرخسي حاصله: أن الحصاة إذا لم تقع عند الجمرة، ووقعت قريباً منها أجزأه، خصوصاً عند كثرة الزحام، وإن وقعت بعيداً منها لم يجزئه.
ب- التيسير في وقت الرمي، وفيه قرر أن للحاج أن يرمي ليلاً، وأن يرمي قبل الزوال في سائر الأيام، وأن له أن يؤخر رمي الجمرات عدا يوم العيد لليوم الأخير للرعاة ومن في معناهم ممن كان مشغولاً أو منزله بعيداً عن الجمرات، ويشق عليه التردد عليها، وألحق بذلك التأخير لتجنب الزحام والمشقة، فهؤلاء يجوز لهم التأخير لرمي الجمرات إلى آخر يوم من أيام التشريق، ولا يجوز تأخيره إلى ما بعد يوم الثالث عشر.
ج- التيسير في الإنابة في الرمي: فأجاز للضعفة والنساء أن يوكلوا غيرهم في الرمي.
6 - (التيسير في التحلل والمبيت) ذكر أن من التيسير القول بوقوع التحلل الأول برمي جمرة العقبة، فإذا رماها يوم العيد حل له كل شيء إلا النساء، بل يحل بمجرد دخول وقت الرمي ولو لم يرم.
وذكر أن الأدلة على سقوط المبيت عمن لم يجد مكاناً يليق به وليس عليه شيء، وأن له أن يبيت حيث شاء في مكة أو مزدلفة أو العزيزية أو غيرها، ولا يلزمه المبيت حيث انتهت الخيام بمنى.
7 - (التيسير في الدماء) ووضح فيه أن من التيسير عدم إرهاق الحجيج بكثرة الدماء.
المؤاخذات على الكتاب:
وبعد استعراض مضمون الكتاب نذكر مجمل ما أخذ عليه مع إيراد رد مختصر على بعضها:
فأما المؤاخذات العامة فمنها:
1 - العنوان: فتسمية الكتاب باسم (افعل ولا حرج) يدل على توسع المؤلف في الاستدلال بهذا الحديث، بينما سبب ورود الحديث أن بعض الصحابة جاء ببعض أعمال يوم النحر على خلاف ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم فقدم وأخر، فلما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أجابهم بقوله: (افعل ولا حرج)، وقال الحافظ: وفي هذا الحديث من الفوائد وجوب اتباع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لكون الذين خالفوها لما علموا سألوه عن حكم ذلك. اهـ. فينبغي أن يكون الأصل في الحج هو قوله صلى الله عليه وسلم: (لتأخذوا عني مناسككم) وأما ما جاء على خلاف الأصل استثناء ورخصة ورفعا للحرج فيقدر بقدره.
2 - المبالغة في الأخذ بالرخص والتسهيل في مسائل الحج، حتى صار الاستثناء أصلاً، وتعدى الأخذ بالتيسير على الحاج عند الحرج إلى التيسير عليه حتى ولو لم يقع الحرج.
3 - تعامل المؤلف مع أحكام المناسك في بعض المواضع كما لو أن الأصل فيها الإباحة، فطالما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عن شيء من المناسك فإنه يجوز فعله، وهذا خلاف الأصل المتقرر أن الأصل في العبادات الحظر والتوقيف.
4 - عدم الاستدلال بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم ولا بحديث ((خذوا عني مناسككم)) إلا مرة واحدة في وجوب أصل الرمي.
أما المؤاخذات على مسائل الكتاب:
فنذكر بعضها، وإن كانت بعض المسائل التي ذكرها المؤلف لها حظ من النظر، ووقع فيها خلاف معتبر، لكن تتبع المؤلف لكل قول فيه رخصة أو تيسير في موضع واحد لم يقل به أحد من الأئمة، ويفضي إلى تضييع معالم الحج والتفريط فيه، فمن هذه المسائل:
1 - قصره لأركان الحج على ركنين فقط، وهما الوقوف بعرفة والطواف باعتبارهما القدر المتفق عليه بين العلماء، وفي هذا تساهل شديد، فأين السعي بين الصفا والمروة والذي على ركنيته جمهور أهل العلم، وأين الإحرام.
2 - قوله بإجزاء الدفع من عرفة قبل الغروب ولا شيء عليه، بينما ذهب جماهير أهل العلم إلى أن الوقوف إلى ما بعد الغروب واجب، ويلزمه دم إذا تركه، بل قال بعضهم إنه ركن. وأما احتجاجه بحديث عروة بن المضرس فهو لا يدل على جواز الانصراف من عرفة قبل الغروب، وإنما يدل على الحج المجزئ. بالإضافة إلى أنه قد ورد ما يعارضه، ثم إن مشكلة الزحام الرئيسة والتي يُتعلل بها في تجويز الدفع قبل الغروب الأقرب أن حلها يتمثل في تنظيم طريقة انصراف الناس وتهيئة الطرق فهي مسألة تتعلق بالتنظيم أكثر منها بالفتوى.
3 - نقله عن النووي أن من نسي الإفاضة وطاف للوداع من غير نية الإفاضة أو بجهل بوجوب الطواف أجزأه طوافه عنهما، بينما أكثر أهل العلم على أنه لا يجزئ طواف الإفاضة بنية غيره، كما نقله النووي نفسه في شرح مسلم.
4 - قوله بعدم اشتراط الطهارة للطواف على الرغم من أنه رأي الجمهور وتعضده الأدلة ولا معارض له، وأما قوله عن حديث عائشة: وهذا الحديث ليس نصًّا في اشتراط الطهارة. فهذا غريب منه فقد قال الحافظ ابن حجر: والحديث ظاهر في نهي الحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها وتغتسل لأن النهي في العبادات يقتضي الفساد، وذلك يقتضي بطلان الطواف لو فعلته، وفي معنى الحائض الجنب والمحدث وهو قول الجمهور.
5 - إقراره لقول السرخسي بأن من رمى فوقع ما رماه قريباً من الجمرة صح رميه، وكلام السرخسي محمول على أن ذلك في حدود مساحة الأحواض، ومن المعلوم أن الأحواض كانت إلى وقت قريب صغيرة ثم تم توسيعها بحيث تسقط الحجارة في موضع الرمي، وتستقر في مكان في السفل، ومع هذا التوسيع فإن القول بإجزاء الرمي ولو وقع الحصى خارج الأحواض خطأ.
6 - تجويزه للرمي قبل الزوال أيام التشريق خلافاً لما ذهب إليه الجمهور وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لذا قال الترمذي بعد إيراده حديث جابر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرمي يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس. قال: والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم أنه لا يرمي بعد يوم النحر إلا بعد الزوال.
وأما عزوه هذا القول إلى ابن عباس فلا يصح سنده إليه، وأما عطاء فقد صح عنه قول ثان يوافق فيه الجمهور وهو أولى؛ لأنه أقرب للدليل. وأما الأدلة التي استدل بها فمنها ما هو ضعيف لا يصح، والصحيح منها غير صريح.
والذي دفع المؤلف إلى تبني هذا القول الأضرار الحاصلة بسبب الزحام، أما اليوم وبعد الأعمال الإنشائية الأخيرة من توسيع المرمى، وتعدد الطوابق للرمي، والتنظيم في الذهاب والإياب زالت هذه الأضرار أو قلَّت، وبالتالي زال موجب الأخذ بهذا القول.
7 - جوز المؤلف الرمي عن النساء، واستدل بأحاديث ليس فيها شاهد لما ذهب إليه، ففيها الرمي عن الصبيان فقط دون ذكر لغيرهم، وأما حديث التلبية عن النساء فمنكر، فتجويز الرمي عن النساء مطلقاً قول غريب، لاسيما بعد التيسيرات الأخيرة في الرمي.
8 - وبالإضافة لما سبق فهذه جملة مما أجازه المؤلف ورخص فيه، فقد قال بجواز مبيت الحاج حيث يشاء إذا لم يجد مكانا يليق به، وعدم إرهاق الحجيج بكثرة الدماء عند ترك واجب من الواجبات، وجوز لبس ما يعرف بالتنورة (وهو أن تخاط للإزار تكة ويرسل دون أن يفصل منه كم عن آخر) من باب التوسعة في لبس الإزار ولو كان مخيطا. وجوز لبس الخفين من غير قطع. وجوز التحلل الأول بالرمي وحده.
ومن أراد التفصيل في بيان الرد على هذه الأقوال وبيان ما عليها فليراجع:
1 - كتاب (كيف نفهم التيسير) لفهد بن سعد أبا حسين.
2 - كتاب (حتى لا يقع الحرج) للدكتور إبراهيم بن محمد الصبيحي.
3 - رسالة (تنبيهات في الحج) للشيخ عبد المحسن بن حمد العباد.
والله الموفق للصواب، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم