للشيخ عبد الله بن الشيخ محفوظ بن بيه
عرض ونقد
(إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية)
كتاب هذا الشهر يتناول موضوعاً مهمًّا، وهو علم المقاصد، ويعتبر هذا الكتاب مكملًا لكتاب المؤلف ((أمالي الدلالات ومجالي الاختلافات)).
وأصل هذا الكتاب محاضرة ألقاها المؤلف بمكة المكرمة، نظمها مركز مقاصد الشريعة الإسلامية، وقصد به المؤلف التعريف بعلم المقاصد ومسيرة تشكُّله. وسماه المؤلف ((مشاهد من المقاصد))؛ لأنه لم يستوعب كل المقاصد، وسوف نعرض لأهم محتويات هذا الكتاب، وأهم المآخذ عليه.
عرض الكتاب:
يتكون هذا الكتاب من مدخل وستة فصول.
الفصل الأول: تعريف المقاصد
وخصصه المؤلف للكلام عن المقاصد، مبيناً أصلها اللغوي، ومعانيها التي تدور عليها في اللغة، ثم ذكر تصرفات (قَصَدَ) المستعملة في هذا الباب، وهي أربعة ألفاظ، وقد اشتمل هذا المبحث على فوائد لغوية. ثم انتقل إلى تعريف المقاصد في الاصطلاح بين الفقهاء والأصوليين، مع ذكر عبارات العلماء المختلفة والتعليق عليها، وعَقْد المقارنات بينها. لينتهي بعد ذلك إلى تعريف مختار للمقاصد.
الفصل الثاني: مسيرة العمل والتعامل مع المقاصد
وفيه تناول المؤلف فهم السلف لدعوة القرآن إلى كشف مقاصد الشريعة، واستشفاف حكمها، وتجلَّي ذلك في فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر نماذج للصحابة، مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم التابعين، ومن بعدهم من أئمة المذاهب.
الفصل الثالث: المصلحة بين العقل والنقل
وتناول من خلاله مسألة هل المصلحة التي تبنى عليها الأحكام عقلية أم شرعية، وتحدث عن دوران الشريعة بين معقولية المعنى والتعبد، والتجاذب بين الكلي والجزئي.
الفصل الرابع: أصناف المقاصد
بيَّنَ فيه المقاصد العامة التي ترجع إليها الشريعة والمقاصد الخاصة والمقاصد الجزئية والمقاصد الكبرى، وذكر معيار الانتماء إلى المقصد الضروري، وتذبذب الانتماء لبعض القضايا بين الضروري والحاجي.
الفصل الخامس: استنباط المقاصد واستخراجها
ومعناه الكيفية التي يتوصل بها إلى الحكم بأن مقصد الشارع من أمر أو نهي أو أي خطاب فيه أو فعل المعصوم أو تقريره، وتطرَّق إلى قضية (بدعة الترك) على حد تعبيره، وأطال فيها الكلام.
الفصل السادس: الاستنجاد بالمقاصد واستثمارها
ومما تناوله في هذا الفصل الضوابط الخمسة المراعاة في التعامل مع المقاصد، ومجالات الاستنجاد بالمقاصد، ليختم بالكلام عن فقه الأقليات.
نقد الكتاب:
يؤخذ على هذا الكتاب عددٌ من المؤاخذات، وهي وإن كان بعضها ليس من صلب موضوع المقاصد، لكن لها دلالات على المنهج الذي سلكه المؤلف، والذي وظَّف من أجله موضوع المقاصد، وسنقتصر الحديث هنا عن مسألتين فقط.
الأولى: مسألة الاستغاثة وأنها مسألة خلافية.
يقول المؤلف - عفا الله عنه- ص 113: (فإن الاستسقاء عند القبر النبوي الشريف بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بـ (استسق) لنا يعتبر بدعة فاحشة [يعني عند من يرى بدعة الترك] أوصلها بعضهم إلى الكفر، مع ورود أثر عن فعل شخص له إما صحابي أو تابعي، وإبلاغ ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم ينكره). ثم ساق ما أخرجه ابن أبي شيبة بسنده عن مالك الدار قال: (وكان خازن عمر على الطعام، قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا فأتي الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر فأقرئه السلام، وأخبره أنكم مسقيون، وقل له: عليك الكيس، عليك الكيس. فأتى عمر فأخبره فبكى عمر ثم قال: يا رب لا آلو إلا ما عجزت عنه. وأخرجه البيهقي وصححه الحافظان ابن حجر في ((الفتح)) وابن كثير في ((البداية والنهاية)). وقد نازعوا بعضهم في عنعنة الأعمش بما هو معروف من الخلاف عند المحدثين في عنعنة المدلس إذا لم يكن غالبا عليه والأعمش ضابط لغلبة موافقة حديثه للضابطين ... وقالوا: إنه لو صح فإن ما فهم من أصول العقيدة ينفيه وإن الصحابة ما فعلوه وهنا يكون الإشكال بين المدرستين في ضبط ترك السلف وفي فهم ما هو عبادة لا تصرف إلا لله، وفي استعمال المجاز في الإسناد كقول عمر للنبي عليه الصلاة والسلام: هلا أمتعتنا بعامر كما في ((صحيح مسلم)) وذلك حين ترحم النبي صلى الله عليه وسلم على عامر بن الأكوع ففهم عمر من ذلك الإشارة إلى موت عامر فقال تلك المقالة وهي في ظاهرها طلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقي عامرا حيًّا وهو أمر لا يقدر عليه إلا الله وما رأى عليه الصلاة والسلام ذلك منكرا فالنسب والإضافات والنوايا والطوايا هي التي تحكم في كلام الناس، ولعل الاختلاف هنا يرجع إلى مسألة الدعاء ومفهومه، بين ما يكون عبادة إذا وُجِّه إلى الباري جل وعلا، وبين ما يكون نداء إذا وُجِّه إلى غيره {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] ومفهوم حياته عليه الصلاة والسلام في البرزخ بين حديث (حياتي خير لكم ... ومماتي خير لكم تعرض علي أعمالكم .... ) وهو يدل على استمرار صلته بأمته وبين حديث الحوض الصحيح: (ما تدري ما أحدثوا بعدك) مما يفهم منه أنه عليه الصلاة والسلام لم تعد له علاقة بعالم الدنيا إلى غير ذلك من البناء العقدي الذي نشأ عنه في القرنين السابع والثامن خلاف شديد يراجع في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام السبكي وغيرهما، وعلى ذلك يحمل كثير من الآثار التي وردت كقصة الأعرابي عند محمد بن عبد الله العتبي .... وحكايات أخرى كثيرة).
ثم يقول ص 119: (فلو منعت سدًّا للذريعة لما كان ذلك بعيدا حتى لا يقع العوام الذين يخفى عليهم، أما التكفير فهذا أمر فيه صعوبة كبيرة؛ لقيام هذه الاحتمالات، فلا يكفر إلا من اعتقد أن للشخص المستغاث به قدرة مستقلة عن قدرة الله تعالى وإرادة مستقلة عن قدره).
والجواب:
أنه لا شك أن مسألة الاستغاثة من المسائل الكبيرة، وذلك لما يترتب عليها من مفاسد خطيرة، وعلى رأسها فتح باب الشرك بالله تعالى، والمؤلف يرى جواز الاستغاثة بغير الله من حيث الأصل ويميل إلى منعها سداً للذريعة، وفي عرضه للمسألة تهوين من أمرها، وكأن المسألة من المسائل الاجتهادية التي يسع فيها الخلاف.
أما الأثر الذي نقله عن استسقاء الرجل بالنبي صلى الله عليه وسلم وإقرار عمر له ونقل تصحيح ابن حجر وابن كثير له والاعتراض عليه بعنعنة الأعمش وأن ذلك لا يضر، فالرد عليه من عدة أوجه:
1 - في السند جهالة مالك الدار المذكور.
2 - تفرد مالك الدار المجهول به، رغم جسامة الحادثة وشدتها.
3 - أن فيه ذكوان أبا صالح، ولا يعلم سماعه من مالك.
4 - مخالفة الأثر لأصول العقيدة وقد أشار هو أيضا إلى ذلك.
5 - أنه منكر لمخالفته ما ثبت في الشرع من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء.
6 - أنه يخالف ما اشتهر وتواتر عن الصحابة والتابعين من ترك الاستغاثة بقبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الأموات عند نزول النوازل واشتداد القحط وغير ذلك، بل كانوا يرجعون إلى الله بالعبادة والتوبة ويستغفرونه، قال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16] وقال تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [هود: 52]. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96]. وهذا عمر يتوسل بدعاء العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه ان أن يدعو الله ويستسقي لهم، ومثله معاوية مع أبي يزيد الجرشي.
7 - أما نقله لتصحيح ابن كثير وابن حجر له، فأما ابن حجر فقد قال: (بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار ... ) اهـ ومعنى هذا أن الحافظ صحح سنده إلى أبي صالح السمان، وهذا لا يمنع تعليله بجهالة مالك الدار وتفرده ولا بالانقطاع بينه وبين ذكوان. وأما تصحيح ابن كثير لسنده فلا يلزم منه تصحيح الحديث، وكل يؤخذ من قوله ويترك.
وهناك ردود أخرى تُبطل الاستدلال بهذا الحديث على فرض ثبوته أعرضنا عنها اختصارًا.
وأما قوله: (فلا يكفر إلا من اعتقد أن للشخص المستغاث به قدرة مستقلة عن قدرة الله تعالى وإرادة مستقلة عن قدره).
فنقول: إن القرآن لما كشف حال العرب أعلم أنهم لم يكن شركهم إلا بقصد التسبب لا الاستقلالية، كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، أي: وما يؤمن أكثرهم بأن الله هو خالقهم والمحي المميت، والذي يجير ولا يجار عليه إلا وهم مشركون به في اتخاذ الأصنام وسائط، وسبباً لتحصيل مقصودهم فيما يزعمون. فالكفر لا يقتصر على اعتقاد تأثيرهم استقلالاً، بل أيضا اعتقاد أن الله أعطاهم تصرفات في أمور الكون، أو أنهم أبواب حاجة إلى الله وشفعاؤه ووسائله، قال الله تعالى عن المشركين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] وقال: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] مما يدل على أنهم لم يعتقدوا استقلاليتهم.
وأمَّا مسألة استعمال المجاز في الإسناد، فينبغي أن نعلم أن تخريج أقوال عباد القبور المستغيثين بالموتى، الداعين إياهم ليشفعوا لهم عند ربهم - على المجاز العقلي منكر كبير، مخالف لحقيقة حالهم، ويترتب على هذا القول السيئ إلغاء أقوال الفقهاء في باب حكم المرتد؛ إذ كل من صدر منه قول شركي وكفري سيخرج من عهدته بالمجاز العقلي. والكلام في هذا الباب كثير، ودحض الشبهات التي عرضها المؤلف على أنها أدلة لأصحابها يطول، لذا نكتفي بهذا القدر.
الثانية: التوسع في إعمال المقاصد والأخذ بها على حساب النصوص الصريحة، والأخذ بشواذ المسائل، وضعاف الأقوال بدعوى مراعاة المقاصد.
- فالمؤلف يقرر (ص 175) أنه يمكن اختيار الأقوال المناسبة التي تحقق المقاصد الشرعية ولو كانت مهجورة، ما دامت نسبتها صحيحة، وصادرة عن ثقة، ودعت إليها حاجة.
ويطبق هذه المعايير على الرمي قبل الزوال، فيجيز الرمي قبل الزوال؛ لكثرة الحجاج والزحام مع هلاك الأنفس وتضاعف المشقة، والمقصد هو المحافظة على الأنفس والتيسير، ويقول: (النتيجة القول المرجوح جعله المقصد الشرعي راجحاً ومتعيناً، فيجوز الرمي قبل الزوال).
- قدم في فقه الأقليات كما في (ص 185) مسألة جواز بقاء المرأة التي أسلمت مع زوجها حتى وإن بقي على كفره، وهو قرار المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء خلافا للمجامع الفقهية الأخرى.
- قال: (والقائمة طويلة، منها: اشتراء بيوت في الغرب بقروض من البنوك اعتماداً على مذهب أبي حنيفة والنخعي، وهناك قضايا جديدة أخرى من أنواع المعاملات وجواز تهنئة غير المسلمين وعيادتهم وتعزيتهم، اعتماداً على الرواية الثالثة في مذهب الإمام أحمد والتي أيدها ابن تيمية للمصلحة كما في الإنصاف للمرداوي.
ولهذا فإني أدعو إلى مراجعة الفتاوى وضبطها بمعيار ثلاثي الأضلاع يقوم على فحص الواقع لوزن المشقة والحاجة التي تطبعه وتقويم العناصر المستحدثة ثم البحث عن حكم من خلال النص الجزئي الذي ينطبق عليه إذا وجد مع فحص درجته ومرتبة حكمه ثم إبراز المقصد الشرعي كليا أو عاما كقصد التيسير مثلا أو خاصا بالباب الذي يرجع إليه الفرع ومن خلال هذا المعيار الدقيق تصدر الفتوى وهي صناعة مركبة وليست بسيطة). انتهى كلامه.
ولا شك أن فتح هذا الباب، وجعل المقاصد حاكمة على النصوص الشرعية بدعوى مقصد التيسير وغيره، يؤدي إلى مفاسد لا حصر لها، واستباحة عملية لكثير من المحرمات والمخالفات، فالعمل بالمقاصد ليس على عمومه وإطلاقه، فهو مقيد بعموم الأدلة والقواعد والضوابط الشرعية، وبسائر الأبعاد العقدية والأخلاقية والعقلية المقررة، فالمقاصد أصل تابع للأدلة، وليس دليلاً مستقلًّا ومنفرداً، ثم إن هناك مقاصد أخرى غفل عنها المؤلف، ومن أهمها مقصد عبادة الله سبحانه وتعالى حتى وإن وقع من جراء الالتزام بها بعض المشقة، فإنه يكون ابتلاء من الله يستخرج به العبوديات من العبد، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]، أما المسارعة إلى تلمس الرخص طلبا للتيسير وغيره من مقاصد مظنونة في مواطن معينة فهذا المسلك فيه ما فيه، ثم إن هناك مقصداً آخر راجع إلى مصلحة العبد في الآخرة، يلزم أن يضعه الفقيه نصب عينيه، حتى يتجنب الزلل في أقواله وفتاويه.
وأخيرا فهذا ما تيسر ذكره، وللاستزادة في التعرف على هذا المنهج، انظر:
كتاب: ((منهج التيسير المعاصر دراسة تحليلية)) لعبد الله الطويل.
كتاب: ((المبالغة في التيسير الفقهي)) لخالد المزيني.
كتاب: ((الاجتهاد المقاصدي)) لنور الدين الخادمي.
مقال: (أين أخطأ المقاصديون الجدد في نظرتهم إلى مقاصد الشريعة) لهيثم الحداد.
والله نسأل أن يهدينا لما يحبه ويرضاه.