وهذه درجة عالية من سماحة القرآن. فقد يستدل أحد العلماء بآية من القرآن على رأى فيقول له صاحب الرأي الثاني: الأمر هنا ليس للوجوب، ولكن الأمر للندب - سبحان الله - الدليل من القرآن ومع ذلك الإسلام يقبل منهما الاختلاف. أسوق لهذا دليلاً واحداً من سورة الطلاق آية 3.
وأعنى: هل يجب أن يشهد المطلق على طلاقه. وهل يقع الطلاق بدون إشهاد؟
وهل يجب أن يشهد إذا راجع مطلقته؟ القرآن يقول:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} موضوع الإشهاد هو الطلاق فهل الأمر للوجوب؟ مع أنه قرآن " قال الأحناف الأمر للندب وليس للوجوب مثل آية الدين. لأن الله بعد أن أمر بكتابة الدين في أول الآية:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}
خفف الأمر فقال {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}
من غير كتابة للدين.
وقد اقترض النبي عدة مرّات ولم يكتب وكذلك الصحابة. فأمر هنا يفيد الندب.
فهل الإشهاد على الطلاق واجب أم مستحبّ؟
الأحناف قالوا الأمر للندب.
والطلاق يقع من غير إشهاد عليه.
والشافعي قال الإشهاد على الطلاق مندوب وعلى إرجاع المطلقة واجب.
وعلماء الشيعة أخذوا الأمر على الوجوب فالإشهاد ضروري عندهم في الطلاق والإرجاع هكذا وسع الإسلام للاجتهاد واحترام نتائج اجتهادهم.
ومعلوم أن أكثر من رأي أيسر على صاحب المشكلة من رأي واحد. ثم نقول لصاحب المشكلة أنت السبب. هذا أو الطوفان.
ومن يسر الإسلام مراعات الجانب النفسي الفطري لكل مسلم.
فمن الناس من يحمل عقلاً عسكريا. لا يعرف إلا الأمر والتنفيذ. (بلغتنا المعاصرة) " تمام يا سيدي "
ومن الناس من يناقش الأمر، ويتعمق في فهمه. الإسلام ملأ عليهم جوانبهم النفسية ويتجلى هذا في أدلة كثير من الأحكام.
قد يرد في القرآن اللفظ بصيغة عامة ويصرّ بعض الشباب على عمومه تقدياً للقرآن الكريم. شكر الله لهم.
ولو كان الأمر هكذا لاستغنا العالم عن كليات الدراسات الإسلامية. إن اللفظ العام لا بد أن نبحث له عن مخصص، فإذا لم نجد فاللفظ على عمومه.
قوله تعالى " كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ " الرحمن 26
" كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ " القصص 88
هنا اللفظ على عمومه.
أما إذا قال القرآن إن الملائكة تستغفر لمن في الأرض في سورة فلا بد للبحث عن مخصص يبين من الذين تستغفر لهم الملائكة؟
لقد بينتهم سورة " غافر " في آية {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} إنهم {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)} سورة غافر 7 فسور غافر خصصت العموم في قوله تعالى (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) وبينت من هم