2 - وما صدر عنه بمقتضى الخبرة الإنسانية والحذق والتجارب في الشؤون الدنيوية، من اتجار أو زراعة، أو تنظيم جيش أو تدبير حربي، أو وصف دواء لمرض أو أمثال هذا، فليس تشريعًا أيضًا؛ لأنه ليس صادرا عن رسالته، وإنما هو صادر عن خبرته الدنيوية وتقديره الشخصي، ولهذا لما رأى في بعض غزواته أن ينزل الجند في مكان معين، قال له بعض صحابته: أهذا منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، فقال الصحابي: ليس هذا بمنزل، وأشار بإنزال الجند في مكان آخر لأسباب حربية بيَّنها الصحابي.
ولما رأى الرسول أهل المدينة يؤبرون النخل أشار عليهم ألا يؤبروا، فتركوا التأبير (يعني: التلقيح) وتلف التمر فقال لهم: "أبروا، أنتم أعلم بأمور دنياكم".
3 - وما صدر عن رسول الله ودل الدليل الشرعي على أنه خاص به وأنه ليس أسوة فيه فليس تشريعًا عامًا، كتزوجه بأكثر من أربع زوجات لأن قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] دل على أن الحد الأعلى لعدد الزوجات أربع، وكاكتفائه في إثبات الدعوى بشهادة خزيمة وحده لأن النصوص صريحة في أن البينة شاهدان.
ويراعى أن قضاء الرسول في خصومة يشتمل على أمرين: أحدهما إثباته وقائع، وثانيهما حكمه على تقدير ثبوت الوقائع. فإثبات الوقائع أمر تقديري له وليس بتشريع، وأما حكمه بعد تقدير ثبوت الوقائع فهو تشريع. ولهذا روى البخاري ومسلم عن أم سلمة أن رسول الله سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال: "إنما أنا بشر وأنه يأتيني الخصوم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها".
والخلاصة أن ما صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقوال وأفعال في حال من الحالات الثلاث التي بيَّنَّاها، فهو من سُنَّته ولكنه ليس تشريعًا ولا قانونًا واجبًا اتباعه، وأما ما صدر من أقوال وأفعال بوصف أنه رسول ومقصود به التشريع العام واقتداء المسلمين به فهو حجة على المسلمين وقانون واجب اتباعه" (?).