المبحث الخامس عشر
مرجعية الحرية
مفهوم الحرية، يمكن أن يعني حسبما سبق: طلاقة الإرادة البشرية من القسر، أو من هيمنة سلطةٍ عليها سواءً كانت سلطة خارجية، أو كانت سلطة داخلية؛ فالسلطة الخارجية قد تكون سلطة سياسية؛ تُكمم الأفواه، أو تملي على الناس ما يجب أن يقولوا، وقد تكون سلطة دينية تحتكر فهم النص أو قراءته، وتصادر حق الآخرين في ذلك، وقد تكون سلطة اجتماعية تفرض على الأفراد الانصياع لأوامرها وقراراتها.
ونعبر عن هذه السلطات بأنها خارجية؛ لأنها من خارج الذات، ومع ذلك فإن هذه السلطات في الأصل لابد منها؛ فلا يتخيل وجود مجتمع بدون سلطة سياسية كما قال الأفوه الأودي:
لا يَصلُحُ النَّاسُ فَوضَى لا سَراة لَهم **** ولا سَرَاة إذا جُهالُهم سَادوا
وكذلك مجتمع بدون هوية، بدون دين، بدون قاعدة لا معنى لكونه مجتمعاً، أي مجتمع بشري لا بدّ أن يكون لديه مجموعة من الأعراف والعلاقات والروابط؛ المؤثرة في الضبط الاجتماعي والاستقرار الإنساني؛ لكن المحذور أن يتحول هذا الدور إلى نوع من التسلط، أو العدوان على حقوق الآخرين، وهنا لابد أن نستخدم كلمة التوازن، في معرفة الضابط بين القدْر المشروع من هذه المراقبة أو السلطة، وبين القدْر الذي يتعدى حده ليكون عدواناً على إرادة الآخرين وحرياتهم.
هناك النوع الآخر من السلطات، وهو ما يمكن أن نعبر عنه بالسلطة الذاتية وهو أن لدى الإنسان مجموعة من: الطباع، والأخلاق، والركائز الجبلّية؛ التي تؤثر في نظرته للأمور، وقراراته؛ كأن يكون شجاعاً، أو متهوراً، أو ضعيفاً متردداً، أوحاداً، أو ليّناً إلى غير ذلك من الخصال والطبائع المركبة في بني الإنسان، والتي تؤثر في إرادتهم، وتؤثر في قراراتهم، وتؤثر في أحكامهم، وحتى في اختياراتهم الشرعية أحياناً.