الثالثة: مراعاة مآل الرأي.
إنَّ إبداء الرأي الذي يستند لأصل ولا يخالف الشريعة، وإن كان في أصله مباحاً، قد ثبت الإذن بإبدائه بحسب الأصل، غير أنه في بعض الأحوال قد ينجر عنه في مآله من الأضرار والمفاسد ما ينافي مقصد الشرع في المصلحة والعدل، فتكون الآراء المباحة أو المشروعة مؤدية إلى خلاف مقاصدها.
ويحدث ذلك بسبب عدم التبصّر بمآلات التصرّفات والآراء والأقوال، أو سبب الباعث السيئ عند متعاطيها. وسواء كان الباعث فاسداً أو صالحاً فإن مجرد مفسدة المآل، والنتيجة السلبيّة للرأي؛ يجعل الرأي رأياً مذموماً واجب الكتمان.
فهذا معيار توزن به الآراء والاجتهادات، وهو مدى كون آثارها محقِّقة لمقاصد الشرع أو مناقضة له، قال الشاطبي: " إنَّ الْأَحْكَامَ شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ كَانَتِ الْأَعْمَالُ مُعْتَبَرَةً بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ فِيهَا كَمَا تَبَيَّنَ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ عَلَى أَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ؛ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مُوَافِقًا وَالْمَصْلَحَةُ مُخَالِفَةً؛ فَالْفِعْلُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَغَيْرُ مَشْرُوعٍ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ الشَّرْعِيَّةَ لَيْسَتْ مقصودة [لأنفسها] وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهَا أُمُورٌ أُخَرُ هِيَ مَعَانِيهَا، وَهِيَ الْمَصَالِحُ الَّتِي شُرِعَتْ لِأَجْلِهَا؛ فَالَّذِي عَمِلَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَضْعِ؛ فَلَيْسَ عَلَى وَضْعِ الْمَشْرُوعَاتِ." (?).
ومن هنا نشأت قاعدة: (سد الذرائع المفضية للفساد)، ومقتضاها تحريم أمر مباح لما يفضي إليه من مفسدة.
وامتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل المنافقين دفعاً لمفسدة تحدُّث الناس بأن محمداً يقتل أصحابه؛ فرد من أمثلة هذه القاعدة.
وعليه؛ فإنه لا يسوغ لصاحب رأي ولا لمفت أو مفكر أن يقرر رأياً ـ مهما كان صواباً ـ إذا ترتب على ذلك مفسدة أعظم، أو كان مثيراً لفتنة.
فالذي ينتقد بعض كتب علماء أهل السنة، ويقرر أن فيها تقريرات غير معصومة؛ فهو ـ وإن قرر حقاً ـ إن أظهر رأيه في زمن تشرئب فيه الفتن وتظهر البدع فقد ناقض هذا