لم تتح لأحد قبلاً، بدءًا من حرية انتقاد إمام المسلمين وخليفتهم والإنكار عليه وتذكيره بالحق ومقاومة فساده، وانتهاءً بحقوق الطفل بين أفراد أسرته وفي مجتمعه، مرورًا بكفالة حريات الرأي والاجتهاد والتملك والعمل، إلا أنه -الإسلام- صيانةً لهذه الحريات العامة أحاطها بسياج من التقييد بمبدأ المحافظة على حق الغير، سواء أكان هذا"الغير"فردًا أم جماعة، فما يؤديه الفرد من تكاليف إزاء الآخرين فهي في حقه تكاليف وواجبات وفي حق غيره حقوق وحريات، فمنشؤها التكليف الذي يتنافى مع الإطلاق في استعمالها؛ إذ لا حرية مع الفوضى، ولا فوضى في الحرية المسؤولة.

فالحريات العامة مصونة، إلا أنه ملاحَظ فيها حق الغير من الفرد والمجتمع؛ صيانةً لها وتحقيقًا للتوازن بين المصالح الفردية والحريات المتعارضة، وهذا من أبرز خصائص هذا الدين عدلاً ومصلحة، فيما لم تتمكن بقية الأنظمة الوضعية من تحقيق هذه المعادلة الصعبة على أرض الواقع، وإن كانت حققت أحيانًا نوعًا من الإبهار التنظيري في المؤلفات والأبحاث والدساتير النظرية.

إن الإسلام لا يستمد قوته وعظمته من مجرد تشريعات نظرية، أو مفاهيم ذهنية مجردة، أو مبادئ فلسفية يدعمها المنطق والعقل فحسب، وإنما يستمد قوته وعظمته من قابلية هذه التشريعات والمفاهيم والمبادئ للتطبيق على أرض الواقع، ومن كونها في حدود الاستطاعة والطاقة البشرية المحدودة، وهذا ما لا يمكن أن يتحقق في أي نظام بشري قاصر إلا حينما يستمد من الإسلام روحه وتشريعاته ومبادئه، فكثير من الأنظمة الغربية أو المغايرة للإسلام التي تكفل الحريات وتدرجها في دساتيرها قد أفادت كثيرًا من التشريعات الإسلامية المتوازنة، ولكنها رغم ذلك لم تسلم من الشطط والشطحات المنبني بعضها على بعض؛ لأنها أخذت من الإسلام وتركت، وهذا لا يصح في حق هذه التشريعات الموزونة بميزان رباني دقيق، فالتشريع الإسلامي كتلة واحدة، غير قابل للتفكيك وإعادة التقسيم أو الانتقاء، ومن هنا كانت الدقة في ضرورة الاستسلام له باعتباره كلاًّ لا يتجزأ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) [البقرة:208]،فاستلهام هذه الكتلة الواحدة ضمانةٌ من الوقوع في التناقضات والاضطراب والحيرة والقلق التي تسببها الانتقائية العشوائية أو

طور بواسطة نورين ميديا © 2015