هذه الجماهير بهذه العبادة من التوحيد إلى الشرك .. فهذا هو أخص مدلولات الشرك في نظر الإسلام .. وبهذا وذلك تقوم الجاهلية نظاما في الأرض وتعتمد على ركائز من ضلال التصور بقدر ما تعتمد على ركائز من القوة المادية:

وصياغة أحكام الفقه لا تواجه هذه الجاهلية - إذن - بوسائل مكافئة. إنما الذي يواجهها دعوة إلى الدخول في الإسلام مرة أخرى وحركة تواجه الجاهلية بكل ركائزها ثم يكون ما يكون من شأن كل دعوة للإسلام في وجه الجاهلية. ثم يحكم اللّه بين من يسلمون للّه وبين قومهم بالحق .. وعندئذ فقط يجيء دور أحكام الفقه، التي تنشأ نشأة طبيعية في هذا الوسط الواقعي الحي، وتواجه حاجات الحياة الواقعية المتجددة في هذا المجتمع الوليد، وفق حجم هذه الحاجات يومئذ وشكلها وملابساتها، وهي أمور كلها في ضمير الغيب - كما أسلفنا - ولا يمكن التكهن بها سلفا، ولا يمكن الاشتغال بها من اليوم على سبيل الجد المناسب لطبيعة هذا الدين! إن هذا لا يعني - بحال - أن الأحكام الشرعية المنصوص عليها في الكتاب والسنة ليست قائمة الآن فعلا من الوجهة الشرعية. ولكنه يعني فقط أن المجتمع الذي شرعت هذه الأحكام له، والذي لا تطبق هذه الأحكام إلا فيه - بل الذي لا تعيش هذه الأحكام إلا به - ليس قائما الآن فعلا. ومن ثم يصبح وجودها الفعلي معلقا بقيام ذلك المجتمع .. ويبقى الالتزام بها قائما في عنق كل من يسلم من ذلك المجتمع الجاهلي ويتحرك في وجه الجاهلية لإقامة النظام الإسلامي ويتعرض لما يتعرض له من يتحرك بهذا الدين في وجه الجاهلية وطواغيتها المتألهة وجماهيرها الخاضعة للطواغيت الراضية بالشرك في الربوبية ..

إن إدراك طبيعة النشأة الإسلامية على هذا النحو الذي لا يتغير، كلما قامت الجاهلية وقامت في وجهها محاولة إسلامية .. هو نقطة البدء في العمل الحقيقي البناء لإعادة هذا الدين إلى الوجود الفعلي، بعد أن انقطع هذا الوجود منذ أن حلت شرائع البشر محل شريعة اللّه في خلال القرنين الأخيرين وخلا وجه الأرض من الوجود الحقيقي للإسلام وإن بقيت المآذن والمساجد، والأدعية والشعائر تخدر مشاعر الباقين على الولاء العاطفي الغامض لهذا الدين وتوهمهم أنه لا يزال بخير وهو يمحى من الوجود محوا!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015