ويحاولون تطبيق هذه الأحكام كأنها نشأت في فراغ وكأنها اليوم يمكن أن تعيش في فراغ .. هؤلاء ليسوا «فقهاء»! وليس لهم «فقه» بطبيعة الفقه! وبطبيعة هذا الدين أصلا!

إن «فقه الحركة» يختلف اختلافا أساسيا عن «فقه الأوراق» مع استمداده أصلا وقيامه على النصوص التي يقوم عليها ويستمد منها «فقه الأوراق»!

إن فقه الحركة يأخذ في اعتباره «الواقع» الذي نزلت فيه النصوص، وصيغت فيه الأحكام. ويرى أن ذلك الواقع يؤلف مع النصوص والأحكام مركبا لا تنفصل عناصره. فإذا انفصلت عناصر هذا المركب فقد طبيعته، واختل تركيبه! ومن ثم فليس هنالك حكم فقهي واحد مستقل بذاته، يعيش في فراغ، لا تتمثل فيه عناصر الموقف والجو والبيئة والملابسات التي نشأ نشأته الأولى فيها .. إنه لم ينشأ في فراغ ومن ثم لا يستطيع أن يعيش في فراغ!

ونأخذ مثالا لهذا التقرير العام هذا الحكم الفقهي الإسلامي بعدم تزكية النفس وعدم ترشيحها للمناصب، وهو المأخوذ من قوله تعالى: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ»،فعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَرَجُلانِ مِنْ بَنِي عَمِّي، فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلاكَ اللَّهُ، وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّا وَاللَّهِ لا نُوَلِّي هَذَا الْعَمَلَ أَحَدًا سَأَلَهُ، وَلا أَحَدًا حِرْصَ عَلَيْهِ" (?). ..

لقد نشأ هذا الحكم - كما نزلت تلك النصوص - في مجتمع مسلم ليطبق في هذا المجتمع وليعيش في هذا الوسط وليلبي حاجة ذلك المجتمع. وفق نشأته التاريخية، ووفق تركيبه العضوي، ووفق واقعه الذاتي. فهو من ثم حكم إسلامي جاء ليطبق في مجتمع إسلامي .. وقد نشأ في وسط واقعي ولم ينشأ في فراغ مثالي. وهو من ثم لا يطبق ولا يصلح ولا ينشئ آثاره الصحيحة إلا إذا طبق في مجتمع إسلامي .. إسلامي في نشأته، وفي تركيبه العضوي، وفي التزامه بشريعة الإسلام كاملة .. وكل مجتمع لا تتوافر فيه هذه المقوّمات كلها يعتبر «فراغا» بالقياس إلى ذلك الحكم، لا يملك أن يعيش فيه، ولا يصلح

طور بواسطة نورين ميديا © 2015