مفرق الطريق بين الاعتبار في السنن الكونية وبين إهمالها

قال تعالى: «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» ..

إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها، وحاضرها بماضيها، فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها.

وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم، ولم تكن معارفهم، ولم تكن تجاربهم - قبل الإسلام - لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة. لولا هذا الإسلام - وكتابه القرآن - الذي أنشأهم به اللّه نشأة أخرى، وخلق به منهم أمة تقود الدنيا ..

إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله، ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة وما جريات حياتهم فضلا على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها، فضلا على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعا .. وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة، ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان! إنما حملتها إليهم هذه العقيدة. بل حملتهم إليها! وارتقت بهم إلى مستواها، في ربع قرن من الزمان. على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية، إلا بعد أجيال وأجيال .. فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية، وأنه إلى اللّه تصير الأمور .. فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله، واتسع له تصورها، ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة، فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن اللّه الثابتة والاطمئنان - بعد هذا - إلى مشيئته الطليقة! «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ» ..

وهي هي التي تحكم الحياة. وهي هي التي قررتها المشيئة الطليقة. فما وقع منها في غير زمانكم فسيقع مثله - بمشيئة اللّه - في زمانكم، وما انطبق منها على مثل حالكم فهو كذلك سينطبق على حالكم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015