وحين تفرغ النفوس من العقيدة القويمة والقيم الرفيعة والمثل العالية فإنها تقبع على الأرض ومصالحها القريبة وقيمها الدنيا فلا ترى حرمة يومئذ لدعوة كريمة، ولا لحقيقة كبيرة ولا تتحرج عن البطش بالداعية إلا أن تكون له عصبة تؤويه وإلا أن تكون معه قوة مادية تحميه. أما حرمة العقيدة والحق والدعوة فلا وزن لها ولا ظل في تلك النفوس الفارغة الخاوية.

وعندئذ تأخذ شعيبا الغيرة على جلال ربه ووقاره فيتنصل من الاعتزاز برهطه وقومه ويجبههم بسوء التقدير لحقيقة القوى القائمة في هذا الوجود، وبسوء الأدب مع اللّه المحيط بما يعملون. ويلقي كلمته الفاصلة الأخيرة. ويفاصل قومه على أساس العقيدة، ويخلي بينهم وبين اللّه، وينذرهم العذاب الذي ينتظر أمثالهم، ويدعهم لمصيرهم الذي يختارون: «قالَ: يا قَوْمِ: أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا؟ إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ، سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ» ..

«أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ؟» .. أجماعة من البشر مهما يكونوا من القوة والمنعة فهم ناس، وهم ضعاف، وهم عباد من عباد اللّه .. أهؤلاء أعز عليكم من اللّه؟ .. أهؤلاء أشد قوة ورهبة في نفوسكم من اللّه؟

«وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا» .. وهي صورة حسية للترك والإعراض، تزيد في شناعة فعلتهم، وهم يتركون اللّه ويعرضون عنه، وهم من خلقه، وهو رازقهم وممتعهم بالخير الذي هم فيه. فهو البطر وجحود النعمة وقلة الحياء إلى جانب الكفر والتكذيب وسوء التقدير.

«إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» .. والإحاطة أقصى الصور الحسية للعلم بالشيء والقدرة عليه.

إنها غضبة العبد المؤمن لربه أن يستباح جلاله - سبحانه - ووقاره. الغضبة التي لا يقوم إلى جوارها شيء من الاعتزاز بنسبه ورهطه وعشيرته وقومه .. إن شعيبا لم ينتفخ ولم ينتفش أن يجد القوم يرهبون رهطه، فلا تمتد إليه أيديهم بالبطش الذي يريدونه! ولم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015