الْفرق بَينهمَا الْأَمر الْمُجَرّد وَأي جحد للضروريات أعظم من هَذَا وَهل هَذَا إِلَّا بِمَنْزِلَة من يَقُول أَنه لَا فرق بَين الرجيع وَالْبَوْل وَالدَّم والقيء وَبَين الْخبز وَاللَّحم وَالْمَاء والفاكهة وَالْكل سَوَاء فِي نفس الْأَمر وَإِنَّمَا الْفرق بالعوائد فَأَي فرق بَين مدعى هَذَا الْبَاطِل وَبَين مدعى ذَلِك الْبَاطِل وَهل هَذَا إِلَّا بهت لِلْعَقْلِ والحس والضرورة وَالشَّرْع وَالْحكمَة وَإِذا كَانَ لَا معنى عِنْدهم للمعروف إِلَّا مَا أَمر بِهِ فَصَارَ مَعْرُوفا بِالْأَمر وَلَا للْمُنكر إِلَّا مَا نهى عَنهُ فَصَارَ مُنْكرا بنهيه فَأَي معنى لقَوْله {يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر} وَهل حَاصِل ذَلِك زَائِد على أَن يُقَال يَأْمُرهُم بِمَا يَأْمُرهُم بِهِ وينهاهم عَمَّا ينهاهم عَنهُ وَهَذَا كَلَام ينزه عَنهُ آحَاد الْعُقَلَاء فضلا عَن كَلَام رب الْعَالمين وَهل دلّت الْآيَة إِلَّا على أَنه أَمرهم بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي تعرفه الْعُقُول وتقر بحسنه الْفطر فَأَمرهمْ بِمَا هُوَ مَعْرُوف فِي نَفسه عِنْد كل عقل سليم ونهاهم عَمَّا هُوَ مُنكر فِي الطباع والعقول بِحَيْثُ إِذا عرض على الْعُقُول السليمة أنكرته أَشد الْإِنْكَار كَمَا أَن مَا أَمر بِهِ إِذا عرض على الْعقل السَّلِيم قبله أعظم قبُول وَشهد بحسنه كَمَا قَالَ بعض الْأَعْرَاب وَقد سُئِلَ بِمَ عرفت أَنه رَسُول الله فَقَالَ مَا أَمر بِشَيْء فَقَالَ الْعقل ليته ينْهَى عَنهُ وَلَا نهى عَن شَيْء فَقَالَ ليته أَمر بِهِ فَهَذَا الْأَعرَابِي أعرف بِاللَّه وَدينه وَرَسُوله من هَؤُلَاءِ وَقد اقر عقله وفطرته بِحسن مَا أَمر بِهِ وقبح مَا نهى عَنهُ حَتَّى كَانَ فِي حَقه من أَعْلَام نبوته وشواهد رسَالَته وَلَو كَانَ جِهَة كَونه مَعْرُوفا ومنكرا هُوَ الْأَمر الْمُجَرّد لم يكن فِيهِ دَلِيل بل كَانَ يطْلب لَهُ الدَّلِيل من غَيره وَمن سلك ذَلِك المسلك الْبَاطِل لم يُمكنهُ أَن يسْتَدلّ على صِحَة نبوته بِنَفس دَعوته وَدينه وَمَعْلُوم أَن نفس الدّين الَّذِي جَاءَ بِهِ وَالْملَّة الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا من أعظم براهين صدقه وشواهد نبوته وَمن لم يثبت لذَلِك صِفَات وجودية أوجبت حسنه وَقبُول الْعُقُول لَهُ ولضده صِفَات أوجبت قبحه ونفور الْعقل عَنهُ فقد سد على نَفسه بَاب الِاسْتِدْلَال بِنَفس الدعْوَة وَجعلهَا مستدلا عَلَيْهِ فَقَط وَمِمَّا يدل على صِحَة ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث} فَهَذَا صريخ فِي أَن الْحَلَال كَانَ طيبا قبل حلّه وَأَن الْخَبيث كَانَ خبيثا قبل تَحْرِيمه وَلم يستفد طيب هَذَا وخبث هَذَا من نفس الْحل وَالتَّحْرِيم لوَجْهَيْنِ اثْنَيْنِ أَحدهمَا أَن هَذَا علم من أَعْلَام نبوته الَّتِي احْتج الله بهَا على أهل الْكتاب فَقَالَ
الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التوارة وَالْإِنْجِيل يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث وَيَضَع عَنْهُم فَلَو كَانَ الطّيب والخبيث إِنَّمَا اسْتُفِيدَ من التَّحْرِيم والتحليل لم يكن فِي ذَلِك دَلِيل فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَة أَن يُقَال يحل لَهُم مَا بِحل وَيحرم عَلَيْهِم مَا يحرم وَهَذَا أَيْضا بَاطِل فَإِنَّهُ لَا فَائِدَة فِيهِ وَهُوَ الْوَجْه الثَّانِي فَثَبت أَنه أحل مَا هُوَ طيب فِي نَفسه قبل الْحل فَكَسَاهُ بأحلاله طيبا آخر فَصَارَ منشأ طيبه من الْوَجْهَيْنِ مَعًا فَتَأمل هَذَا الْموضع حق