الأول وَهُوَ السُّجُود من قيام فَيَضَع أشرف شَيْء فِيهِ وَهُوَ وَجهه على التُّرَاب خشوعا لرَبه واستكانة وخضوعا لعظمته وذلا لعزته قد انْكَسَرَ لَهُ قلبه وذل لَهُ جِسْمه وخشعت لَهُ جوارحه ثمَّ يَسْتَوِي قَاعِدا يتَضَرَّع لَهُ ويتذلل بَين يَدَيْهِ ويسأله من فَضله ثمَّ يعود إِلَى حَاله من الذل والخشوع والاستكانة فَلَا يزَال هَذَا دأبه حَتَّى يقْضى صلَاته فيجلس عِنْد إِرَادَة الِانْصِرَاف مِنْهَا مثنيا على ربه مُسلما على نبيه وعَلى عباده ثمَّ يصلى على رَسُوله ثمَّ يسْأَل ربه من خَيره وبره وفضله فَأَي شَيْء بعد هَذِه الْعِبَادَة من الْحسن وَأي كَمَال وَرَاء هَذَا الْكَمَال وَأي عبودية أشرف من هَذِه الْعُبُودِيَّة فَمن جوز عقله أَن ترد الشَّرِيعَة بضدها من كل وَجه فِي القَوْل وَالْعَمَل وَأَنه لَا فرق فِي نفس الْأَمر بَين هَذِه الْعِبَادَة وَبَين ضدها من السخرية والسب والبطر وكشف الْعَوْرَة وَالْبَوْل على السَّاقَيْن والضحك والصفير وأنواع المجون وأمثال ذَلِك فليعز عقله وليسأل الله أَن يَهبهُ عقلا سواهُ وَأما حسن الزَّكَاة وَمَا تضمنته من مواساة ذَوي الْحَاجَات والمسكنة والخلة من عباد الله الَّذين يعجزون عَن إِقَامَة نُفُوسهم وَيخَاف عَلَيْهِم التّلف إِذا خلاهم الْأَغْنِيَاء وأنفسهم وَمَا فِيهَا من الرَّحْمَة وَالْإِحْسَان وَالْبر والطهرة وإيثار أهل الإيثار والاتصاف بِصفة الْكَرم والجود وَالْفضل وَالْخُرُوج من سماة أهل الشُّح وَالْبخل والدناءة فَأمر لَا يسريب عَاقل فِي حسنه ومصلحته وَأَن الْآمِر بِهِ أحكم الْحَاكِمين وَلَيْسَ يجوز فِي الْعقل وَلَا فِي الْفطْرَة الْبَتَّةَ أَن ترد شَرِيعَة من الْحَكِيم الْعَلِيم بضد ذَلِك أبدا وَأما الصَّوْم فناهيك بِهِ من عبَادَة تكف النَّفس عَن شهواتها وتخرجها عَن شبه الْبَهَائِم إِلَى شبه الْمَلَائِكَة المقربين فَإِن النَّفس إِذا خليت ودواعي شهواتها التحقت بعالم الْبَهَائِم فَإِذا كفت شهواتها لله ضيقت مجاري الشَّيْطَان وَصَارَت قريبَة من الله بترك عَادَتهَا وشهواتها محبَّة لَهُ وإيثارا لمرضاته وتقربا إِلَيْهِ فيدع الصَّائِم أحب الْأَشْيَاء إِلَيْهِ وَأَعْظَمهَا لصوقا بِنَفسِهِ من الطَّعَام وَالشرَاب وَالْجِمَاع من أجل ربه فَهُوَ عبَادَة وَلَا تتَصَوَّر حَقِيقَتهَا إِلَّا بترك الشَّهْوَة لله فالصائم يندع طَعَامه وَشَرَابه وشهواته من أجل ربه وَهَذَا معنى كَون الصَّوْم لَهُ تبَارك وَتَعَالَى وَبِهَذَا فسر النَّبِي هَذِه الْإِضَافَة فِي الحَدِيث فَقَالَ يَقُول الله تَعَالَى كل عمل ابْن آدم يُضَاعف الْحَسَنَة بِعشْرَة أَمْثَالهَا قَالَ الله إِلَّا الصَّوْم فَأَنَّهُ لي وَأَنا أجزي بِهِ يدع طَعَامه وَشَرَابه من أجلى حَتَّى أَن الصَّائِم ليتصور بِصُورَة من لَا حَاجَة لَهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا فِي تَحْصِيل رضى الله وَأي حسن يزِيد على حسن هَذِه الْعِبَادَة الَّتِي تكسر الشَّهْوَة وتقمع النَّفس وتحي الْقلب وتفرحه وتزهد فِي الدُّنْيَا وشهواتها وترغب فِيمَا عِنْد الله وتذكر الْأَغْنِيَاء بشأن الْمَسَاكِين وأحوالهم وَأَنَّهُمْ قد أخذُوا بِنَصِيب من عيشهم فتعطف قُلُوبهم عَلَيْهِم ويعلمون مَا هم فِيهِ من نعم الله فيزدادوا لَهُ شكرا وَبِالْجُمْلَةِ فعون الصَّوْم على تقوى الله أَمر مَشْهُور فَمَا اسْتَعَانَ أحد على تقوى الله وَحفظ حُدُوده