وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه الكريمة بذلك تفريقًا بين النوعين، فإنه لما سمع أصواتهَم في النَّخل وهم يؤبِّرونها- وهو التلقيح- قال: "ما هذا؟ " فأخبروه بأنهم يلقِّحونها، فقال: "ما أرى لو تركتموه يضرُّ شيئًا"، فتركوه، فجاءَ شيصًا، فقال: "إنما أخبرتكم عن ظنِّي، وأنتم أعلمُ بأمور دنياكم، ولكنْ ما أخبرتكم عن الله" (?).

والحديثُ صحيحٌ مشهور، وهو من أدلَّة نبوَّته وأعلامها؛ فإنَّ من خفي عليه مثلُ هذا من أمر الدنيا وما أجرى اللهُ به عادته فيها، ثمَّ جاء من العلوم التي لا يمكنُ للبشر أن تطَّلع عليها (?) البتَّة إلا بوحيٍ من الله، فأخبرَ عمَّا كان، وما يكون، وما هو كائنٌ من لَدُن خَلْقِ العالم إلى أن استقرَّ أهلُ الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، وعن غيب السموات والأرض، وعن كلِّ سببٍ دقيقٍ أو جليلٍ تُنالُ به سعادةُ الدارين، وكلِّ سببٍ دقيقٍ أو جليلٍ تُنالُ به شقاوةُ الدارين، وعن مصالح الدنيا والآخرة وأسبابهما، ومفاسد الدنيا والآخرة وأسبابهما.

مع كون معرفتهم بالدنيا وأمورها وأسباب حصولها ووجوه تمامها أكثرَ من معرفته، كما أنهم أعرفُ بالحساب والهندسة والصِّناعات والفِلاحة وعمارة الأرض والكتابة.

فلو كان ما جاء به مما ينالُ بالتعلُّم والتفكُّر والنظر (?) والطُّرق التي يسلُكها الناسُ لكانوا أولى به منه، وأسبقَ إليه؛ لأنَّ أسبابَ ما ينالُ بالفكرة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015