ما نودِعه في هذا الكتاب ترقوا منه إلى النظر في المقام الأعلى فباب الرحمة مفتوح، والربُّ منادٍ فأين المشمّرون!

وأمَّا اللسان فالمراد منه حمد اللَّه تعالى عليها والتحدُّث بها بقوله تعالى: {وأَمَّا بِنِعْمَةِ ربِّكِ فَحَدِّثْ} (?) فيتحدَّث بها لا لرياء وسمعة وخيلاء، بل للثَّناء على الرب تباركَ وتعالى. بيان جماعة من السلف يجلسون فيتطارحون حديث نعمهم حتى ينتهي مجلسهم وهم على ذلك. وذكر الأستاذ أبو القاسم القشيري أنَّ بعضهم قال: رأيت في بعض الأسفار شيخًا كبيرًا قد طعنَ في السن، فسألته عن حاله فقال: إنِّي كنت في ابتداء عمري أهوى ابنة عم لي، وهي كذلك كانت تهواني فاتَّفق أنَّها زُوّجت مني؛ فليلة زفافها قلنا: تعالي حتى نحيي هذه الليلة شكرًا للَّه تعالى على ما جمعنا. فصلَّينا تلك الليلة ولم يتفرَّغ أحد منا إلى صاحبه. فلمَّا كانت الليلة الثانية قلنا مثل ذلك. فمنذ سبعين أو ثمانين سنة نحن على تلك الحالة. أليس كذلك يا فلانة! فقالت العجوز: كما يقول الشيخ. فهذا الشيخ تحدَّث بنعمة اللَّه تعالى عليه الذي ألهمه لهذا الشكر العظيم. وذلك أيضًا من الشكر. وروي أنَّ وفدًا قدموا على عمر بن عبد العزيز رحمه اللَّه فقام شابّ ليتكلَّم. فقال عمر: الكُبْر (?) الكبر. فقال: يا أمير المؤمنين: لو كانَ الأمر بالسن لكان في المسلمين من هو أسَنُّ منك. فقال: تكلَّم. فقال: لسنا وفد الرغبة، ولا وفد الرهبة: أمَّا الرغبة فقد أوصلها إلينا فضلك، وأمَّا الرهبة فقد آمَننا منها عدلك. وإنَّما نحن وفد الشكر جئناك نشكرك باللسان. والأخبار في هذا كثيرة، وليس استيعابها من غرض كتابنا.

واعلم أنَّ هذين الأمرين أعني الشكر بالجَنَان واللسان يشملان كل نعمة. ونسبة النعم إليهما على حد سواء. وأمَّا الأفعال فالمُراد منها امتثال أوامر المنعِم واجتناب نواهيه. وهذا يخصّ كل نعمة بما يليقُ بها. فلكلِّ نعمة شكر يخصُّها. والضابط أن تستعمل نعم اللَّه تعالى في طاعته وتتوقَّى من الاستعانة بها على

طور بواسطة نورين ميديا © 2015