المؤمنين؛ فإنَّ دار الدنيا مملكة أعدائك، ومحلَّة بلائك؛ والإنسان لا يكون في مملكة عدوّه مستريحًا، وإنَّما يكون مصابًا معذَّبًا بأنواع الأنكاد والمتاعب. فلا تستغرب ما أصابك، بل اعلم أنَّه القاعدة المستقِرَّة في حقِّك، والغريب ممَّا جاء على خلافها. ولهذا كان سيِّد الطائِفة الجنيد رحمه اللَّه يقول: لا أستنكر شيئًا ممَّا يقع من العالم؛ لأنِّي قد أصَّلت أصلًا؛ وهو أنَّ الدار دار غمّ وهمّ وبلاءً وفتنة، وأنَّ العالَم كلُّه شرّ، من حقِّه أن يتلقّاني بكل ما أكره. فإن تلقَّاني بما أحِبّ فهو فضل؛ وإلَّا فالأصل الأوَّل. وإنَّما قلنا: إنَّ الدنيا مملكة أعدائنا، ودار أحزاننا، لما ثبت وصحَّ في صحيح مسلم وغيره: من قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: إنَّ الدنيا سِجْن المؤمن، وجنَّة الكافر. فأوضحَ أنَّ الكافر فيها منعّم، والمؤمن فيها مسجون، وهل يكون المسجون إلَّا حزينا مصابًا! فالأصح أنَّ المؤمن مع الكافر في هذه الدار كأهل السجن مع السلطان. فانظر واعتبر وتأمَّل قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} (?) فإذا تأمَّلت هذا انشرح صدرُك لما يصيبك، وعلمت أنَّه دليل على أنَّك من أهل الإيمان، المقرَّبين عند الرَّحمن، الذين يريد تطهيرهم من الأدناس، ويحبّ تصفية قلوبهم من الوسواس. ولذلك كان السلف رحمهم اللَّه تعالى يخشَون تتابُع النعم، ويخافون أن يكون ذلك استدراجًا. وأنا قد اعتبرت، فوجدت القاعدة المستمِرّة في هذه الأمَّة أنَّ كل من كان أكثر إيمانًا، كانت الدنيا عنه أكثر انزواءً، والأكدار عنده أكثر ممَّن دونه، ولذلك كان أشدّ النَّاس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل، وما أوذي نبيّ أكثر ممَّا أوذي سيِّد الأنبياء نبيِّنا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-: وأنت فانظر ترَ الكفار أكثر دنيا من المسلمين، ثم انظر المسلمين تر الجهَّال منهم والفسقة أكثر دنيا من أهل العلم وأهل التقوى. ثم انظر أهل العلم والتقوى تر كل من زاد فيهما نقص في الدنيا بحسب ذلك. وإن عددت منِ جُمع له العَدْل والملك، أو العلم والمال، أو التقوى والمال، لم تر إلَّا آحادًا محصورين، وأُناسًا كانت الدنيا في أيديهم لا في قلوبهم، وكان ذلك لمصلحة اقتضتها حكمة الربّ تعالى، خرجوا بها عن