لقد نشأ ابن الخطيب فى العاصمة غرناطة، وتلقى بها دراسته «2» ، فقد كانت وقتئذ ميدانا احتشد فيه الأكابر من العلماء والأدباء، فدرس اللغة والشريعة والأدب على جماعة من أقطاب العصر، مثل «أبى عبد الله بن الفخار الألبيرى» شيخ النحاة فى عصره، «وأبى عبد الله بن مرزوق» فقيه المغرب الكبير، «والقاضى أبى البركات بن الحاج البلفيقى» ، ودرس الأدب والشعر على الوزير «أبى عبد الله ابن الحكيم اللخمى» وعلى الرئيس «أبى الحسن على بن الجياب» ، وغير هؤلاء، كما درس الطب والفلسفة على حكيم العصر وفيلسوفه الشيخ «يحيى بن هذيل» . فلا نبالغ اذن اذا قلنا: ان غرناطة- فى ذلك الوقت- كانت أعظم مركز للدراسات الأدبية والعلمية والاسلامية، فى هذا القطر الغربى من العالم الاسلامى، وكان هذا من حظ ابن الخطيب الى حد بعيد.
هذا، وقد تأثر مستقبل ابن الخطيب السياسى بحكم منصب والده، فمنذ شب عن الطوق ونفسه تطمح للوصول الى مركز أبيه، فلما توفى الوالد دعى ابنه للخدمة مكانه، وكان حينئذ فى الثامنة والعشرين من عمره، حيث تولى أمانة السر لأستاذه الرئيس «أبى الحسن بن الجياب» وزير السلطان ابى الحجاج يوسف الأول النصرى وكاتبه «3» ، ثم خلف أستاذه فى الوزارة، وتقلد ديوان الانشاء لهذا السلطان، وكان ابن الخطيب يومئذ قد ملك زمام أرفع الأساليب شعرا ونثرا، بفضل أستاذه الراحل، وظهر أثر هذه التلمذة على رسائله السلطانية، التى حررها بقلمه على لسان ملوك الأندلس والمغرب، والتى نعتها المؤرخ ابن خلدون بالغرائب، وقد جمع ابن الخطيب نفسه منها الكثير فى كتابه «ريحانة الكتاب، ونجعة المنتاب» ، كما أورد المقرى عددا منها فى مؤلفه «نفح الطيب» »
، ويعتبر كتاب ابن الخطيب «كناسة الدكان بعد انتقال السكان» مجموعة من الرسائل السلطانية التى تمثل العلاقات السياسية بين غرناطة والمغرب، فى منتصف القرن الرابع عشر الميلادى، على لسان سلطانه يوسف الأول ابن الأحمر، الى معاصره فى فاس أبى عنان فارس المرينى.