وَقد نَالَ شرف تدوينه والسبْق إِلَى ذَلِك الإِمَام الشَّافِعِي1 - رَحمَه الله - حَيْثُ كتب رسَالَته "الرسَالَة الأولى" الَّتِي كتب بهَا إِلَى عبد الرَّحْمَن بن مهْدي - رَحمَه الله - إِمَام أهل الحَدِيث فِي بَغْدَاد بِنَاء على طلبه.
ثمَّ الرسَالَة الثَّانِيَة الَّتِي كتبهَا حِين استقرّ بِهِ الْمقَام فِي مصر - وَهَذِه الرسَالَة هِيَ الَّتِي بقيت بأيدي النَّاس إِلَى يَوْمنَا هَذَا - وَقد ضمّنها الشَّافِعِي - رَحمَه الله - أغلب وأهمّ المباحث الأصوليّة الَّتِي يحْتَاج إِلَيْهَا الْفَقِيه لاستنباط الْأَحْكَام من أدلتها الشَّرْعِيَّة2.
ثمَّ تتَابع الْعلمَاء - فِي جَمِيع الْمذَاهب - فِي التَّأْلِيف فِي أصُول الْفِقْه، وَقد اشْتهر السّائرون والمقتفون لآثار الشَّافِعِي - رَحمَه الله - فِي رسَالَته فِي الاستنباط والتأصيل بأصحاب الطَّرِيقَة الشَّافِعِيَّة، أَو الْجُمْهُور؛ لِأَن الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة: مَالِكًا، وَأحمد، وَالشَّافِعِيّ؛ متّفقون فِي الْغَالِب الْكثير على الْعَمَل بالأصول الْمَذْكُورَة فِي الرسَالَة، كَمَا اشتهرت - فِيمَا بعد - هَذِه الطَّرِيقَة: بطريقة الْمُتَكَلِّمين؛ لِأَنَّهَا اعتنت بتحرير الْقَوَاعِد والمسائل الْأُصُولِيَّة وتحقيقها تَحْقِيقا منطقياً نظرياً دون تعصب لمَذْهَب بِعَيْنِه. وَهِي تميل ميلًا شَدِيدا إِلَى الِاسْتِدْلَال الْعقلِيّ والجدلي؛ فَيثبت أَصْحَابهَا مَا أثْبته الدَّلِيل - فِي نظرهم - وينفون مَا نَفَاهُ بغية الْوُصُول إِلَى أقوى الْقَوَاعِد وأضبطها.
وَالْإِمَام الشّافعي - رَحمَه الله - لم يكن بدعاً من الْأَئِمَّة فِي ذَلِك، وإنّما هُوَ متّبع، حَيْثُ أَخذ هَذَا الْعلم عَن شُيُوخه وأساتذته السالفين؛ فَكَانَ مِمَّن أَخذ عَنْهُم الْعلم: الإِمَام مَالك بن أنس - رَحمَه الله.