وَرَد في الأثر عن السادات ممن عَبر، قول عيسى بن مريم، عليه السلام: الدُّنيا مَحَلُّ مَثُلةٍ، ومنزلُ نَقَلةٍ، فكونوا فيها سَيَّاحين، واعتبروا ببقية آثار الأَولين.
قال قُسُّ بن ساعدة الذي حكم له النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أَنه يُبعَثُ أُمّةَ وحدَه: «أَبلَغُ العظات، السيرُ في الفلوات، والنظرُ إلى محل الأَموات» . وقد مدح الشعراءُ الخُلفاءَ والملوك والأُمراء بالسير في البلاد، وركوب الحُزُون والوهاد. فقال بعضهم يمدح المعتصم:
تناولتَ أَطرافُ البلاد بقدرةٍ، ... كأَنك، فيها، تَبتَغي أَثر الخِضْر
وقد تتعذَّر أَسباب النظر، فيتعين التماس الخبر، فوَجب لذلك علينا إعلام المسلمين بما علِمناه، وإرفادُهم بما أَفادناه الله بفضله فأَتْقَنَّاه، إذ كان الافتقار إلى هذا الشأْن يَشترك فيه كلّ من ضَرَب في العِلم بسهم، واختَصَّ منه بنصيب أَو قَسم، أَو أَتَّسمَ منه باسم، أَو ارتسم بفنّ منه او رسم. وعلى ذلك لم أَرَ من طَبَّ سقيمَ أَسمائها، أَو قَوِي على تمتين ضعيف مقاصدها وأَنحائها، فإني رأَيت جُلّ نَقَلة الأَخبار، وأَعيان رُواة الأَشعار والآثار، ممن عُنِي بها دهرَه، وأَنفد فيها عَرضه وعَمْرَه حَسَنَ الاستمرار على الصواب، والجاً حدائق الرشد في كل باب، ضاربا بقداح الفَلْج في أَفانين العلوم والآداب، عند قراءة السنن والآثار، ورواية الأحاديث والأَخبار، لتحصيلهم إياها بالمعاني، واستدلالهم على مغزى أَوائل الكلم بالثّواني، لأخذ بعض الكلام بأهداب بعض، ودلالة أواخره على أوائله، وأَوائله على أَواخره، حتى يمرّ بهم ذكر بقْعة كانت بها وقعة واقعة، فيختلط لاحتياجه إلى النقل لا العقل، والرواية لا الدراية، فتراه إما غالطا، أو مغالطاً، فيَخفِض من صوته بعد رَفْعه، ويَتَكَهَّمُ ماضي لسانه بقدعه. ثم قلما رأَيت الكتب المتْقنَة الخط، المحتاطَ لها بالضبط والنّقط، إِلا وأَسماءُ البقاع فيها مهملة أَو محرّفة، وعن محجّة الصواب منعطفة أَو منحرفة، قد أَهمله كاتبه جهلا، وصورّه على التَّوَهُّم نقلا.
وكم إمام جليل، ووَجْه من الأَعيان نبيل، وأمير كبير، ووزير خطير، يُنسَب إلى مكان مجهول، فتراه عند ترجيم الظنون على كلّ محتمل محمول، فإن سئل عنه أَهل المعارف أخذوا بالنصف الأرْذل من العلم، وهو لا أدري. وبئست الخطة للرجل الفاضل، فإِن التَمس لذلك مَظِنَّةً، أَعضَلَ، أَو أُريغَ له مطلب، أَعوَزَ وأَشكل، لِإغفالهم هذا الفنَّ من العلم الخطير مع جلالته، وإعراضهِم عن هذا المقصد الكبير مع فَخامته. ومن ذا الذي يَستَغني من أولي البصائر عن معرفة اسماء الأَماكن وتصحيحها، وضبط أصقاعها وتنقيحها، والناس في الافتقار إلى علمها سَوَاسية، وسرّ دَوَرانها على الأَلسن في المحافل علانيةٌ، لأَن من هذه الأَماكن ما هي مواقيت للحجاج والزائرين، ومعالم للصحابة والتابعين، رضوان الله عليهم أَجمعين، ومشاهد للأَولياء والصالحين، ومواطن غزوات سرايا سيّد المرسلين، وفتوح الأَئمة من الخلفاء الراشدين.
وقد فُتحت هذه الأماكن صلحا وعنوة، وأَماناً وقوَّةً، ولكلٍّ من ذلك حكم في الشريعة، في قسمة الفيء وأَخذ الجزية، وتناول الخراج واجتناءِ المقاطعات والمصالحات، وإِنالة التَّسْويفات والإِقطاعات،