وفيه معنى آخر: وهو أنك إذا صحت بهم جاءوك واجتمعوا عندك، وهابوك، حتى كأن أشفار عينك إذا نظرت إليهم، ذابلٌ ومهند؛ لهيبتك في قلوبهم ولطاعتهم لك.
من كل أكبر من جبال تهامةٍ ... قلباً ومن جود الغوادي أجود
الجود: المطر الشديد، والغوادي: جمع غادية، وهي السحابة التي تنشأ غداة.
يقول: إن كل رجل منهم أكبر من جبال تهامة وأسخى من السحاب التي تأتي غدوة. وهذا يمكن أن يكون متعلقاً بقوله: أشفار عينك ذابلٌ ومهند من كل رجلٍ أكبر من جبال تهامة. ويمكن أن يكون للقسمة والتبعيض، كما يقال: رأيت من الناس ذاهبٌ. أي من هو ذاهب.
يلقاك مرتدياً بأحمر من دمٍ ... ذهبت بخضرته الطلى والأكبد
أحمر: صفة لمحذوف، يعني: بسيف أحمر من دم.
يقول: الذي هو أكبر من جبال تهامة قلباً، يراك متقلداً بسيف أحمر، مما عليه من دماء الأعداء، صبغت خضرته وصقاله دماء الأعناق والأكباد، وسترها فيأتيك به.
حتى يشار إليك ذا مولاهم ... وهم الموالي والخليقة أعبد
يقول: حتى يطاعون لك منقادون لأمرك، ويشار إليك فيقال: ذا مولاهم أي سيدهم وهم مع ذلك سادات الناس كلهم، فأنت سيدهم، والخلق عبيدهم، فأنت سيد السادات.
أنى يكون أبا البرية آدمٌ ... وأبوك والثقلان أنت محمد
تقديره: كيف يكون آدم أبو البرية، وأبوك محمد، وأنت الثقلان.
يريد: إذا كنت أنت الثقلين، وأبوك محمد، فأبو البرية إذاً أبوك! لا آدم! والثقلان: الجن والإنس. ومثله قول الآخر:
وليس على الله بمستنكرٍ ... أن يجمع العالم في واحد
يفنى الكلام ولا يحيط بفضلكم ... أيحيط ما يفنى بما لا ينفد؟
أيحيط، استفهام: والمراد به الجحد. ويفنى وينفد بمعنى، فلذلك وضع أحدهما موضع الآخر.
يقول: يفنى كلام الشعراء في مدحكم فلا يحيط بفضلكم؛ لأن للكلام نهاية وليس لفضلكم نهاية، فكيف يحيط المتناهي بما لا يتناهى؟!.
وقال في أبي دلف وكان قد حبسه الوالي لشيء بلغه عنه، وأبو دلفٍ هذا سجانٌ حبس المتنبي عنده مدة سنتين وقد أهدى إليه هدية وهو في السجن:
أهون بطول الثواء والتلف ... والسجن والقيد يا أبا دلف
أهون: أي ما أهون طول الثواء، وهذا إن بناه من الإهانة فهو من الشاذ. كقولهم: ما أعطاه للمال. لأن ما زاد على الثلاثة لا يبنى منه فعل التعجب، إلا بلفظ ثلاثي، فكأنه يقول: ما أشد الإهانة بطول الثواء والتلف.
وإن كان من هان يهون فهو صحيح يدل عليه ما بعده من الأبيات، وكان قد حبس في السجن، وكان يتعهده رجلٌ يعرف بابن كنداج كنية أبي دلف، يأتيه بالطعام وغيره، فشغل عنه يوماً، فكتب إليه بهذه الأبيات يقول مخاطباً لأبي دلف: ماأيسر طول الثواء والهلاك علي، والسجن والقيد كل ذلك هين علي وهذا يدل على أنه كان محبوساً.
غير اختيارٍ قبلت برك بي ... والجوع يرضي الأسود بالجيف
يقول: قبلت برك بي عن غير اختيار بل بالاضطرار الواقع، كما أن الأسد إذا جاع، ولم يظفر بفريسةٍ، يأكل الجيف اضطراراً! كذلك حالي، في قبول برك.
كن أيها السجن كيف شئت فقد ... وظنت للموت نفس معترف
التوطين: جعل النفس وطناً.
يقول للسجن: كن كيف شئت علي، فإني قد وطنت نفسي للموت، توطين المعترف بالشيء، الراضي به، المقر بالموت، الذي سكن إليه. وقيل: المعترف الصابر. يعني: وطنت للموت نفسي نفس رجل صابرٍ على الشدائد.
لو كان سكناي فيك منقصةٌ ... لم تكن الدر ساكن الصدف
يقول: لو كان كوني في السجن توجب منقصة وذلاًّ لكان كون الدر مع جودته وعلو قدره في الصدف الذي هو أخس حيوان البحر يوجب له النقص. فكما لا تؤثر خسة الصدف في قدر الدر، كذلك حالي في السجن. وهذا تسلية لنفسه.
وكان قوم ي صباه قد وشوا به إلى السلطان وكذبوا عليه وقالوا: قد انقاد له خلقٌ من العرب، وقد عزم على أخذ بلدك، حتى أوحشوه منه فاعتقله وضيق عليه، فكتب إليه يمدحه:
أيا خدد الله ورد الخدود ... وقد قدود الحسان القدود
أيا: يحتمل أن يكون حرف نداء، والمنادى محذوف، وتقديره: أيا قوم. ويحتمل أن يكون افتتاح الكلام. مثل أما وألا وخدد: أي شقق. وقد: أي قطع، وأصله القطع طولاً. والقدود: جمع القد، وهو القامة.
قال يدعو على ورد الخدود والقدود الحسنة، وفيه وجهان: