معجز احمد (صفحة 347)

يقول: نفوس الناس مثل السباع يفرس بعضها بعضاً، إما مجاهرة، وإما مخادعة، كما تفعل السباع. وجهرة واغتيالاً: مصدران واقعان موقع الحال.

من أطاق التماس شيءٍ غلاباً ... واغتصاباً لم يلتمسه سؤالا

الغلاب: المغالبة.

يقول: من قدر على مراده بالغصب، لم يطلبه بالسؤال.

كلّ غادٍ لحاجةٍ يتمنّى ... أن يكون الغضنفر الرّئبالا

يقول: من يطلب أمراً يتمنى أن يكون فيه كالأسد في الشجاعة والقهر. والرئبال والغضنفر: اسمان للأسد، وجمع بينهما لاختلاف اللفظين.

وقيل: إن الرئبال بدل من الغضنفر، وقيل صفة له.

وفزع الناس لخيل لقيت سرية سيف الدولة ببلد الروم، فركب وركب أبو الطيب معه فوجد السرية قد قتلت بعض الخيل، وأراه بعض العرب سيفه فنظر إلى الدم عليه وإلى فلول أصابته في ذلك الوقت فأنشد سيف الدولة متمثلاً قول النابغة:

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلولٌ من قراع الكتائب

تخيّرن من أزمان يوم حليمةٍ ... إلى اليوم قد جرّين كلّ التّجارب

فقال أبو الطيب مجيباً له في الوقت ارتجالاً.

رأيتك توسع الشعراء نيلاً ... حديثهم المولّد والقديما

القديم: من كان في الجاهلة. والمخضرم: الذي أدرك الجاهلية والإسلام. والإسلامي: من ولد في الإسلام إلى وقت بشار. والمولد: من كان في وقت بشار، وهم إلى يومنا، فبشار أبو المولدين وكذلك الحديث.

وقيل: القديم: البدوي. والمولد: الحضري.

يقول: قد عم إحسانك الشعراء السالف منهم والباقي، وحديثهم وما كان بعده بدل من الشعراء.

فتعطي من بقي مالاً جسيماً ... وتعطي من قضي شرفاً عظيماً

بقي: لغة طائية.

يقول: تعطي الباقي منهم الأموال الجسيمة، وتعطي الماضي الشرف العظيم وروى عميماً أي ثابتاً.

سمعتك منشداً بيتي زيادٍ ... نشيداً مثل منشده كريماً

النشيد: الإنشاد. وزياد: اسم النابغة، وأراد بمنشده: سيف الدولة.

يقول: سمعتك تنشد بيتي النابغة، وكان هذا الإنشاد كريماً مثلك.

فما أنكرت موضعه ولكن ... غبطت بذاك أعظمه الرّميما

الرميم: البالية، وإنما لم يؤنثه، وإن كان صفةً لأعظمه، لأن الرميم مصدر في الأصل. يقال: رم العظم يرم رماً ورميماً، فلما استعمله صفة لم يؤنثه، كقولهم: رجل صؤوم وامرأة صؤوم.

يقول: لم أنكر موضع النابغة في الشعراء ومحله في الفصحاء، ولكن غبطت عظامه البالية؛ حيث تشرف بإنشادك شعره، فتمنيت أن أكون مكانه.

وقال أيضاً يمدحه وكان قد اجتاز برأس عين سنة إحدى وعشرين وثلاث مئة، وقد أوقع سيف الدولة بعمرو بن حابس من بني أسد، وبني ضبة ورباح من بني تميم، ولم ينشدها إياه، فلما لقيه دخلت في جملة مدائحه وهي من قوله في صباه:

ذكر الصّبا ومرابع الآرام ... جلبت حمامي قبل وقت حمامي

ذكر: جمع ذكرى. وروى ذكر الصبا مصدر: ذكرت. والمرابع: جمع مربع، وهو المنزل في أيام الربيع، وقيل: المرعى. والآرام: جمع ريم، وهو الظبي الأبيض.

يقول: تذكرت منازلنا في الربيع، ومنازل مجاورةً، لنساء كالظباء البيض جلبن علي الموت قبل وقته.

وإنما تذكر العرب أيام الربيع؛ لأنهم يخرجون إلى المراعي فيجتمعون مع أحبابهم، فإذا جاء الصيف، رجع كل قوم إلى دارهم، وهاجت صبابة الاشتياق، وتجرعوا مرارة الافتراق.

دمنٌ تكاثرت الهموم عليّ في ... عرصاتها كتكاثر اللّوّام

دمن: خبر ابتداء محذوف، أي هذه المرابع دمن. والدمن: جمع الدمنة، وهي ما يرى من آثار الديار: من الأبوال والأبعار.

يقول: لما وقفت في هذه المرابع، تذكرت أحبابي فيها، فتكاثرت علي الهموم كتكاثر اللوم في وقوفي في تلك العرصات.

وكأنّ كلّ سحابةٍ وقفت بها ... تبكي بعيني عروة بن حزام

عروة بن حزام: أحد العشاق، وصاحبته عفراء.

يقول: عفت آثار هذه المرابع بكثرة الأمطار حتى كأن كل سحابة كان لها بهذه الدمن حبيب، فهي إذا وقفت عليها بكت لتذكره، كما بكي عروة على عفراء، ومثله لأبي تمام:

كأنّ السّحاب الغرّ غيّبن تحتها ... حبيباً فما ترقى لهنّ مدامع

وقد شبه غزارة المطر بغزارة دمع عروة على عادته في قلب التشبيه

ولطالما أفنيت ريق كعابها ... فيها، وأفنت بالعتاب كلامي

الكعاب: التي كعب ثدياها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015