يقول: نحن نذم السحاب البيض في فعلها بهذا الربع، لأنها درست آثاره، وإذا طلعت وظهرت في السماء أعرضنا عنها، وصرفنا وجوهنا، كما يفعل العاتب إذا رأى من عتب عليه.
ومن صحب الدّنيا طويلاً تقلّبت ... على عينه حتّى يرى صدقتها كذبا
يقول: إن الربع قد تغير وحال عن الحسن الذي كان له بكون الحبيب فيه، وكذا عادة الزمان، فمن صحب الدنيا علم أن ما يعانيه من أحوالها زائل، فكأن ما يراه حقيقة وصدقاً، فهو محال وكذب.
وقيل: معناه من عمر تبدل به الحال، فصار العمر الذي يسره يسوءه، لقربه من الفناء، فكأن كل شيء في الدنيا وإن كان سروراً فإنه غم، فصاحب الدنيا يرى صدقها كذباً، وحياتها موتاً، لما كان عاقبتها إلى الفناء وغاية أمرها إلى الزوال.
وكيف التذاذي بالأصائل والضّحى ... إذا لم يعد ذاك النّسيم الّذي هبّا؟!
الأصائل: واحدها أصيل، وهو آخر النهار والنسيم: الريح الطيبة التي يلتذ بها، وأراد به قرب الحبيب.
يقول: كيف ألتذ بأوقاتي: الغدوات والعشيات، مع أني بعيد عمن أهواه، إذا لم تعد إلى أوقاتي في الأصائل والضحى؛ لأنها أطيب الأوقات، لا حر فيها يؤدي، ولا برد شديد، وخص الأصائل والضحى ليعلم أنه إذا لم يلتذ بأطيب الأوقات فكيف يلتذ بغيرها؟
ذكرت به وصلاً كأن لم أفز به ... وعيشاً كأنّي كنت أقطعه وثبا
الباء: بمعنى في أي في الربع، وهو متعلق بذكرت أي ذكرت في الربع، كقول النابغة: وما بالربع من أحد.
وقيل: إن الباء متعلق بقوله: وصلاً وعيشا أي ذكرت وصلاً وعيشاً كان لي به أي فيه. والهاء في قوله: لم أفز به للوصل وفي أقطعه للعيش.
يقول: لما وقفت بهذا الربع تذكرت عيشاً مر لي فيه، كأني لم أظفر به من قصر، كأنه لم يكن، كما قال عبد الصمد بن المعذل:
شبابٌ كأن لم يكن ... وشيبٌ كأن لم يزل
وتذكرت عيشاً كان من قصره وقصر أوقاته وكل نعمة فيه، كأنه قصر وقت الوثب، فكل زيارة من الحبيب وثبة، ولك ساعة من اللقاء والاجتماع وثبة، والوثب في معنى قصر الوقت وقصر العيش. وفيه معنى بديع ومبالغة حسنة.
وفتّانة العينين قتّالة الهوى ... إذا نفحت شيخاً روائحها شبّا
وفتانة: عطفاً على قوله: ذكرت وصلاً وعيشاً أي ذكرت جارية تفتن الناس بحسن عينيها، وتقتلهم بهواها، ولو اتصلت روائحها بالشيخ، لعاد إليه شبابه، وهذا كقولي الأعشى:
لو أسندت ميتاً إلى صدرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر
لها بشر الدّرّ الّذي قلّدت به ... ولم أر بدراً قبلها قلّد الشّهبا
البشر: جمع بشرة، وهي ظاهر الجلد. والشهب: قيل: إنه جمع شهاب وهو النجم. وقيل جمع أشهب، وهو أيضاً النجم، والتأنيث كله للفتانة والهاء في به للدر.
يقول: هي في نعومة بشرتها كالدر الذي قلدت به، وهي في الحسن كالبدر. والدر الذي عليها كالنجوم، وما رأيت بدراً متقلداً بالدر حتى رأيتها. والأول أليق بذكر البدر.
فيا شوق ما أبقى! ويالي من النّوى ... ويا دمع ما أجرى! ويا قلب ما أصبى!
وأصله: يا شوقي ما أبقاك! ويا دمعي ما أجراك! ويا قلبي ما أصباك! فحذف الياء من المنادى كما تقول: يا غلام وحذف ضمير المفعول الذي هو المتعجب منه ويجوز الرفع في قوله: يا شوق ويا دمع ويا قلب على أن يكون نداء مفرداً وقوله: ويالي من النوى توجع منه لنفسه فيما لقي من ألم النوى، ومعناه يا شوقي ما أدومك، ويا دمعي ما أجراك، ويا قلبي ما أشد صبوتك.
لقد لعب المشتّ بها وبي ... وزوّدني في السّير ما زوّد الضّبّا