وقيل: معناه أن من سر أهل الأرض، إذا بكى لزم كل من سره أن يشاركه على بكائه، حتى تتحقق المحبة التي يقتضيها سرورهم بفعله، وهذا قريب من الأول ومعناه: أنهم شاركوه في حزنه، كما شاركوه في سروره. ومثله ليزيد بن محمد:
أشركتمونا جميعاً في سروركم ... فلهونا إذ حزنتم غير إنصاف
وإنّي وإن كان الدّفين حبيبه ... حبيبٌ إلى قلبي حبيب حبيبي
يقول: أنا أحب سيف الدولة، وهذا المدفون حبيبه، فهو إذاً حبيب حبيبي فمن كان حبيب حبيبي فهو حبيب إلى قلبي، فكيف لا أحزن عليه؟!.
وقد فارق النّاس الأحبّة قبلنا ... وأعيا دواء الموت كلّ طبيب
أعيا: أي أعجز.
يقول: قد فارق الناس قبلك أحبتهم، وذاقوا ألم الفراق، فليس هذا بأول حبيب فارق حبيبه.
سبقنا إلى الدّنيا فلو عاش أهلها ... منعنا بها من جيئةٍ وذهوب
يقول: لو عاش من كان قبلنا في الدنيا، لضاقت الدنيا علينا، ومنعنا لكثرة أهلها عن المجيء والذهاب، والتصرف فيها.
تملّكها الآتي تملّك سالبٍ ... وفارقها الماضي فراق سليب
السالب: الآخذ مال غيره قهراً والسليب: المسلوب.
يقول: إن هذه الدنيا كانت في يد السابق، ثم تنتقل إلى من يأتي بعده، فكأن الآتي سلبها من الماضي، فجعل الوارث الآتي سالباً، والميت الماضي مسلوباً والإرث سلباً.
ولا فضل فيها للشّجاعة والنّدى ... وصبر الفتى لولا لقاء شعوب
شعوب: اسم الموت، معرفة لا يدخلها التعريف؛ لأنه اسم علم للمنية، فقد اجتمع فيه التأنيث والتعريف.
يقول: لولا خوف الموت، لكان لا يظهر فضل الشجاعة والسخاء والصبر؛ لأن الإنسان إنما جبن خوفاً من القتل، وإذا علم أنه لا يموت ارتفع الجبن، كذلك البخيل، إنما يبخل لأنه يخاف أن تبلغ به الحاجة إلى الموت، فإذا أيقن بالخلود، فقد سمحت نفسه بما في يده، لأنه آمن من الهلاك، ويرجو أن يكتسب فيما يأتي من الزمان، وكذلك من جرح فإنما يجزع خوفاً من الموت، فإذا علم أنه لا يموت، لا فضل لصبره، وفي الموت هذه الحكمة والصلاح.
وأوفى حياة الغابرين لصاحبٍ ... حياة امرئٍ خانته بعد مشيب
أوفى: أفعل من الوفاء.
يقول: الحياة لا بد لها من النفاد، وآخر غاياتها المشيب، فإذا دام الإنسان حتى يبلغ المشيب، فقد بلغ غاية الحياة، ثم تخونه هذه الحياة في الوفاء له، فأوفى الحياة، هي الحياة التي تخون صاحبها عند المشيب.
لأبقى يماكٌ في حشاي صبابةً ... إلى كلّ تركيّ النّجار جليب
اللام في قوله: لأبقى في جواب قسم مضمر، أي والله لأبقى. وقيل: اللام للتأكيد. والنجار: الأصل، وهو اللون أيضاً. وجليب: أي مجلوب، وروى في حشاي جراحة.
يقول: إني رأيت من نجابة يماك، وحسن أخلاقه وطاعته لمولاه، ما ترك في قلبي محبة لكل تركي مجلوب من بلاد الترك.
وما كل وجهٍ أبيضٍ بمباركٍ ... ولا كلّ جفنٍ ضيّق بنجيب
يقول: إني كنت أشتاق إلى تركي، وأعلم أنه لا يشبهه في نجابته وكرامته، إذ ليس كل وجه أبيض مباركاً، وكل جفن ضيق نجيباً.
وقيل: إنه رجع عما قبله من الاشتياق إلى كل تركي، إذ ليس لكل أحد من الخصال ما فيه.
لئن ظهرت فينا عليه كآبةٌ ... لقد ظهرت في حدّ كلّ قضيب
الكآبة: الحزن، والقضيب: ها هنا هو السيف.
يقول: إن ظهر علينا الحزن لموته، فقد ظهر أيضاً في السيوف، لفقدها من يضرب بها وطول لبثها في غمودها بعد موته.
وفي كلّ قوسٍ كلّ يومٍ تناضلٌ ... وفي كلّ طرفٍ كلّ يوم ركوب
التناضل: الترامي بالسهام. والطرف: الفرس الكريم.
يقول: ظهرت الكآبة أيضاً في القوس والفرس.
يعزّ عليه أن يخلّ بعادةٍ ... وتدعو لأمرٍ وهو غير مجيب
روى بعادة أي بعادة من عادات خدمتك. وروى بغارة يقول: يشتد على هذا الميت أن يخل بعادة من عادات خدمتك، أو يخل بغارة من غاراتك، وأن تدعوه لأمر وهو لا يجيبك، لكن به ما منعه عن ذلك.
وكنت إذا أبصرته لك قائماً ... نظرت إلى ذي لبدتين أديب
لبدة الأسد: ما تلبد من الشعر على عاتقه.
يقول: كنت إذا رأيته قائماً بين يديك في الخدمة، رأيت أسداً له عقل وأدب. يعني أن الأسد شجاع لا عقل له ولا أدب. وهذا قد جمع الشجاعة والعقل والأدب، فهو أفضل من الأسد.