فإن قلت: ما الحكمة في ختم هذا القرآن العظيم بالمعوّذتين؟
والجواب ما قاله ابن جرير في تفسيره عن شيخه ابن الزبير: لثلاثة أمور:
الأول: لما كان القرآن العظيم من أعظم نعم الله على عباده، والنعم مظنّة
الحسد، فختم بما يطفىء الحسد من الاستعاذة بالله.
الثاني: إنما ختم بهما لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فيهما: أنْزِلَتْ عليَّ آيات لم أرَ مِثْلَهن قط، كما قال في فاتحة الكتاب: لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها، فافتتح القرآن بسورة لم ينزل مثلها، واختتم بسورتين لم ير مثلهما، ليجمع حسن الافتتاح والاختتام.
ألا ترى أن الخطَب والقصائد وغير ذلك من أنواع الكلام إنما يُنظر فيها إلى
حسن افتتاحها واختتامها.
الثالث: أنه لما أمر القارىء أن يفتتح قراءته بالتعوذ من الشيطان الرجيم ختم
القرآن بالمعوذتين لتحصُلَ الاستعاذة بالله عند أول القراءة وعند آخر ما يقرأ من القرآن، فتكون الاستعاذة اشتملت على طرفي الابتداء والانتهاء، ليكون القاريء محفوظاً بحفظ الله الذي استعاذ به من أول الأمر إلى آخره.
قال البيهقي في شعب الإيمان: أخبرنا أبو القاسم بن حبيب، حدثنا محمد بن
صالح بن هانيء، حدثنا الحسين بن الفضل، حدثنا عفان بن مسلم، عن الربيع بن صبيح، عن الحسن، قال: أنزل الله مائة وأربعة كتب أودع علومه منها أربعة: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، ثم أودع علم التوراة والإنجيل والزبور في الفرقان، ثم أودع علوم القرآن في المفصل، ثم أودع المفصل فاتحة الكتاب، فمن علم تفسيرها كان كمن علم جميع الكتب المنزلة.
وقد وُجّه ذلك بأن العلوم التي احتوى عليها القرآن وقامت بها الأديان
أربعة: علم الأصول، ومداره على معرفة الله وصفاته، وإليه الإشارة برب العالمين الرحمن الرحيم.
ومعرفة النبوات، وإليه الإشارة بالذين أنعمت عليهم.