التي انتشرت في العراق تبين لنا أنها في نشأتها تماثل الحضارة المصرية من حيث كونها حضارة زراعية في أساسها؛ غير أننا نلاحظ أنها لم تكن في كل أجزاء بلاد النهرين ذات طابع واحد؛ فقد وجدت اختلافات ميزت بين تلك التي سادت في بقعة عن تلك التي سادت في بقعة أخرى؛ وذلك نظرًا لأن بيئة بلاد النهرين ليست على وتيرة واحدة إذ تختلف في الشمال عنها في الوسط، عنها في الجنوب وهكذا، وبالطبع ما دامت الحضارات تنتج عن تفاعل الإنسان ببيئته كما أشرنا في مقدمة الكتاب؛ فإنه لا بد من حدوث اختلافات بين حضارات هذه الأجزاء المختلفة من بلاد النهرين وإن كانت جميعها تشترك في خصائص عامة، كما أن بعض مظاهرها قد انتقلت من جهة لأخرى وانتشرت فيها.
ومع كلٍ يمكننا أن نذكر بأن حضارة بلاد النهرين تمثل حضارة بيئة اتسمت بالعنف في مظاهرها الطبيعية وقد أثر ذلك في كل إنتاجها الحضاري، كما أن فترات النهوض والازدهار فيها لا تدل بالضرورة على وجود وحدة سياسية عامة انضوت تحت لوائها سائر أنحاء بلاد النهرين؛ بل ولا حتى سائر أنحاء قسم من أقسامها الرئيسية؛ ففي أقدم العصور كان الجزء الجنوبي من العراق تسوده حكومات المدن المتنازعة ومع ذلك فقد انتشرت فيها حضارة راقية يكفي للدلالة عليها ما عثر عليه من آثار في مدينة "أور" وغيرها من المدن التي كانت قائمة في عهد السومريين.
ولا يمكننا أن نتناول بالتفصيل تلك الحضارات التي نشأت في الأجزاء المختلفة وأن ندرس مقوماتها ومظاهرها، ومع ما أشرنا إليه من انتقال بعض المظاهر من قسم إلى آخر يمكننا مع التجاوز أن نتناول حضارات بلاد النهرين بصورة عامة، وسنكتفي ببيان أهم ما تتميز به في نواحيها المختلفة.