(أذكر ذات يوم من الأيام أنني اشتكيت إلى الوالد رحمه الله من المشقة في طلب العلم، وكانت دروسه متواصلة أثناء اليوم، بعد الفجر تفسير للقرآن، وبعد الظهر صحيح البخاري، وبعد العصر درس الفقه، وبعد المغرب السنن، وبعد العشاء في صحيح مسلم، خمسة دروس بالإضافة إلى دروس الجامعة، فلما وجدت بعض التعب والمشقة، وأحببت أن أقتصر على البعض، شكوت إليه رحمه الله، فقال: يا بني! والله لقد كنت أوقد الفتيل لأبحث عن مسألة من مسائل الفقه، فيخنقني الدخان فأطفئه ثم أوقده ثم أطفئه، ولا أنتهي من المسألة إلا قرابة منتصف الليل، وأنتم في الكهرباء والنعمة، يقول: والله يا بني.. لقد كان يمرّ عليَّ بعض الآلام والأسقام أسلو عنها بالعلم الذي أتعلّمه) .
ومما ذكر –رحمة الله عليه- يقول: (كانت أذني تؤلمني حتى أجد من الجهد والألم ما الله به عليم، فأضع الفتيلة في أذني لكيه من أجل يسكن الألم، وكتابي في حجري لا أتحول عنه) .
العلم يريد جهد وتعب وتضحية وبذل.
طالب العلم يعامل الله، والمعاملة مع الله ابتلاء، وفيها اختبار، وفيها امتحان، ولا بد لطالب العلم أن يجد الشدائد، وأن يجد المحن، وأن يجد من يثبطه ومن يخذله، فأول شيء يوصى به طالب العلم: الصبر على وساوس الشيطان، فإن الشيطان لم يدع لطالب العلم باب خير يطرقه إلا وجاءه منه حتى لا يبلغه، لا يمكن أن يترك طالب العلم وأن يخلي بينه وبين الخير؛ لأن الله عز وجل أخبر أن المؤمن مبتلى، ودرجة طالب العلم فوق درجة المؤمن العامي.
فأول ما يأتي الشيطان للإنسان يخذله، يقول له: من أنت حتى تطلب العلم فلست بعالم، ولا أباك عالم، ولست من بيت علم، حتى يخذله عدوّ الله، ويجد أمامه من حاجات الناس والأهل وأغراضهم ما يمتحن به، ويجعل في قلبه اليأس من رحمة الله والقنوط من روح الله.