و ومن الخصال التي كان يتحلى بها: عدم مبالاته بالدنيا أقبلت أو أدبرت. أذكر ذات مرة أنه حفر بئراً كلفه ما لا يقل عن مائتين وخمسين ألف ريال، ولم يشأ الله أن يخرج منها ماء، فجاء الذي حفره وقال: يا شيخ.. هذا يحتمل أن يسدّ شيئاً من المجاري، ويمكن مستقبلاً، أن يتحسن الوضع - يخفف الصدمة على الوالد-، فقال: يا بني.. والله لو تذهب هذه المزرعة كلها فإني راضٍ عن الله.
ز- وقلّ أن يُسأل شيئاً إلا أعطاه. دخلتُ عليه ذات يوم فوجدته يبكي، فلما رآني قلب وجهه إلى جهة الفراش ثانية ومسح الدموع، ثم جلس كأن لم يكن به شيء، فلما استقرّ بي المجلس وحييته بما يليق، سأتله لمعرفة ما الذي يبكيه -وكنت جريئاً عليه نوعاً ما-، وخشيت أن يكون جاءه ما يسوء، فما زلت به وهو يريد أن يصرفني، فقلت: يا شيخ.. رأيتك تبكي! فقال: يا بنيّ.. وما لي لا ابكي وأيتام فلان توفي أبوهم وليس عندي ما أرسله لهم!!. والله ما كفّ بكاءه حتى يسر الله عز وجل ما يسر، وإذا به كأنني جئت بالحاجة إليه.
وكان يعوّدنا الرحمة والرأفة بالمساكين، وهي خصلة عجيبة فيه، حتى كان يقول لي: إذا مررتَ بامرأة تسأل، لا تجاوزها حتى تعطيها، ولو تعطيها غترتك التي على راسك، كأني أتعجب من هذا الكلام.
فقال: لأنك تعرف المرأة إذا احتاجت قد تقع في الزنا، وهي عورة من عورات المسلمين، فلا يليق بك أن تمرّ بها إلا وقد كفيتها ولو كانت كاذبة.
وكان راتبه أكثر من سبعة آلاف في ذلك الزمان، ما يأتي منتصف الشهر إلا ويقترض -رحمة الله عليه-، فنفعه الله بهذه الصفة كثيراً، ولذلك إذا أراد الله أن يفرغ طالب العلم للعلم، نزع من قلبه حبّ الدنيا. ويعلم الله كم من بيوت لمّا توفي، فقدتْ عطفه وحنانه.
الموقف الأخير أذكره - ولعله يكون سبباً للترحم عليه- أنه قبل أن يتوفى بقرابة ثلث ساعة، والله العظيم لا أذكر أنني رأيته أشرق وجهاً ولا أبهج نفساً منه من تلك الساعة -رحمة الله عليه-.
هذه بعض المواقف التي تحضرني، واسأل الله العظيم أن يجمعنا في مستقر رحمته.