إذا أخذت الظروف المناخية تتغير لتقدم الجليد خلال عصر الجليد الثالث إلى العروض الوسطى؛ واختلفت تبعًا لذلك مظاهر الحضارة في كل منهما, واستمر الحال كذلك طول عصر الجليد الثالث وفترة الانحسار التي تلته وعصر الجليد الرابع "فرم Wurm". وازدادت الاختلافات المناخية بعد هذا العصر الأخير؛ حيث تراجع الجليد فكانت لكل إقليم ظروفه الخاصة وتباينت تبعًا لذلك الحضارات التي سادت خلال الدور الحجري القديم الأعلى. ثم أخذ الجفاف يتزايد في العروض الوسطى والمدارية؛ فاشتد تباين الظروف الطبيعية حتى تميزت البيئات المحلية بعضها عن بعض, وأصبحت لكل منها ظروفها الخاصة في العصور التالية؛ ولذا فإن ما يشاهد من مظاهر حضارية في بيئة ما لا يمكن العثور على نظائر لها في بيئات أخرى إلا إذا تشابهت الظروف أو عند انتقال هذه المظاهر من بيئاتها الأصلية إلى تلك البيئات، وعلى ذلك فمن المستحسن أن تدرس الحضارات البشرية ابتداءً من ذلك الدور في كل بيئة على حدة.
ولما كانت المراحل الأولى لحياة البشر لا تكاد تختلف في جهة من العالم عنها في الجهات الأخرى كما أشرنا1؛ فقد اشتركت أقدم الحضارات الإنسانية في مظاهرها الرئيسية في الجزء الأكبر من العصر الحجري القديم أي: إن العالم القديم سادته في أنحائه المعمورة مظاهر حضارية متشابهة خلال الدورين الحجري القديم الأسفل والحجري القديم الأوسط، ولم يبدأ الاختلاف الحضاري إلا في الدور الحجري القديم الأعلى تقريبًا.
ويمكن تلخيص المظاهر الحضارية التي سادت خلال الدورين: الحجري القديم الأسفل, والحجري القديم الأوسط على النحو التالي: