اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ، فَقُلْت: يَا خَبِيثُ وَعَلَى مُحَمَّدٍ فَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ فَلَطَمْته، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ ـ وَفِي: عُلُوِّهِ ـ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ وَسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَاهَا وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ ـ فَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَسَقْفُهَا وَأَنَّهُ مُقَبَّبٌ وَأَنَّ لَهُ قَوَائِمَ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ فَوْقُ سَوَاءٌ كَانَ مُحِيطًا بِالْأَفْلَاكِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي غَايَةِ الصِّغَرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ـ الْآيَةَ. انتهى.
وقد فصل الكلام على ذلك ـ أيضا ـ في درء التعارض ـ خلال رده على الرازي وبيان تقرير العلو بالأدلة العقلية وكذلك في بيان تلبيس الجهمية.
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ: أن الله سبحانه منح عباده فطرة فطرهم عليها لا تقبل سوى الحق ولا تؤثر عليه غيره، ومن أبين ما شهدت به الفطر والعقول والشرائع: علوه سبحانه فوق جميع العالم، ثم قال: وأما تقرير ذلك بالأدلة العقلية الصريحة فمن طرق كثيرة جدا، منها: أنه إذا ثبت بضرورة العقل أنه سبحانه مباين للمخلوقات، وثبت أن العالم كري ـ كما اعترف به النفاة المعطلة وجعلوه عمدتهم في جحد علوه سبحانه ـ لزم أن يكون الرب تعالى في العلو ضرورة، وذلك لأن العالم إذا كان مستديرا فله جهتان حقيقيتان: العلو والسفل فقط. هـ.
ومراده ـ رحمه الله ـ إثبات فوقية الله تعالى وعلوه على خلقه وليس مراده أن إحاطة الله تعالى بخلقة تستلزم نسبته لجميع الجهات فلينتُبه لذلك، فإنه لا يصح أن يُنسب الله تعالى إلا إلى جهة العلو المطلق، بل لا يصح أصلا أن في خارج العالم جهات إلا جهتان فقط: العلو والسفل، كما ذكر ابن القيم نفسه في آخر كلامه الذي نقلناه قبل قليل.
وقد قال شيخ الإسلام في أول الرسالة العرشية وهي من أفضل ما كتب في بيان هذا الموضوع: الله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله، فإن السموات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا. هـ.
وقال في آخرها: فقد ظهر أنه ـ على كل تقدير ـ لا يجوز أن يكون التوجه إلى الله إلا إلى العلو مع كونه على عرشه مباينا لخلقه ـ وسواء قدر مع ذلك أنه محيط بالمخلوقات كما يحيط بها إذا كانت في قبضته، أو قدر مع ذلك أنه فوقها من غير أن يقبضها ويحيط بها ـ فهو على التقديرين يكون فوقها مباينا لها، فقد