فَصْلٌ: الْقَدَرُ السَّابِقُ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ وَلَا يُوجِبُ الِاتِّكَالَ
وَاتَّفَقَتْ جَمِيعُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَالسُّنَنِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ وَلَا يُوجِبُ الِاتِّكَالَ, بَلْ يُوجِبُ الْجِدَّ وَالِاجْتِهَادَ وَالْحِرْصَ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ, وَلِهَذَا لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَصْحَابَهُ بِسَبْقِ الْمَقَادِيرِ وَجَرَيَانِهَا وَجُفُوفِ الْقَلَمِ بِهَا فَقِيلَ لَهُ: أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ قَالَ: "لَا, اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ" ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [اللَّيْلِ: 5-10] 1 كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي قَدَّمَنَا وَغَيْرِهَا. فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدَّرَ الْمَقَادِيرَ وَهَيَّأَ لَهَا أَسْبَابًا وَهُوَ الْحَكِيمُ بِمَا نَصَبَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ, وقد يسر كلا مَنْ خَلَقَهُ لِمَا خَلَقَهُ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, فَهُوَ مُهَيَّأٌ لَهُ مُيَسَّرٌ لَهُ, فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ مَصَالِحَ آخِرَتِهِ مُرْتَبِطَةٌ بِالْأَسْبَابِ الْمُوَّصِلَةِ إِلَيْهَا كَانَ أَشَدَّ اجْتِهَادًا فِي فِعْلِهَا وَالْقِيَامِ بِهَا وَأَعْظَمَ مِنْهُ فِي أَسْبَابِ مَعَاشِهِ وَمَصَالِحِ دُنْيَاهُ مِنْ كَوْنِ الْحَرْثِ سَبَبًا فِي وُجُودِ الزَّرْعِ, وَالنِّكَاحِ سَبَبًا فِي وُجُودِ النَّسْلِ, وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ سَبَبٌ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ, وَالْعَمَلُ السَّيِّئُ سَبَبٌ فِي دُخُولِ النَّارِ. وَقَدْ فَقِهَ هَذَا كُلُّ الْفِقْهِ مَنْ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمَّا سَمِعَ أَحَادِيثَ الْقَدَرِ "مَا كنت بأشد اجتهاد مِنِّي الْآنَ"2 وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ "احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزَنَّ, وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا لَكَانَ كَذَا وَكَذَا, وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ"3.
وَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي خُزَامَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ وَتُقَاةً