وَعَنِ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فَاطِرٍ: 22] نَفْيٌ لِاسْتِطَاعَةِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُسْمِعَهُمْ, وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُحَالٍ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ أَنْ يُسْمِعَهُمْ كَمَا أَسْمَعَ أَهْلَ الْقَلِيبِ تَبْكِيتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا" 1 الْحَدِيثَ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا إِذَا حُمِلَ عَلَى نَفْيِ مُطْلَقِ السَّمَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَنْفِ مُطْلَقَ السَّمَاعِ وَإِنَّمَا نَفَى سَمَاعَ الِاسْتِجَابَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْقَلِيبِ: "مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ, وَلَكِنَّهُمْ لَا يُجِيبُونَ" 2 وَبِهَذَا يَتَّضِحُ تَشْبِيهُ الْكُفَّارِ بِهِمْ فَإِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَسْمَعُونَ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْمَعُونَ مِنْهُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ بِسَمَاعِ اسْتِجَابَةٍ؛ وَلِهَذَا أَثْبَتَ تَعَالَى هَذَا السَّمَاعَ الظَّاهِرَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [الْجَاثِيَةِ: 8] وَلَوْ كَانَ الْكُفَّارُ لَمْ يَسْمَعُوا مُطْلَقًا لَا سَمَاعَ اسْتِجَابَةٍ وَلَا مُطْلَقًا لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ حُجَّةً عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنِ الرَّسُولُ بَلَّغَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَا سَمِعُوهُ مِنْهُ وَلَا أَفْسَدَ مِنْ قَوْلٍ هَذَا لَازِمُهُ.

وَأَمَّا شُبْهَتُهُمُ الْعَقْلِيَّةُ: فَهِيَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِعُقُولِهِمُ السَّخِيفَةِ, فَإِنَّ الرُّوحَ الَّتِي عَلَيْهَا الْعَذَابُ أَوِ النَّعِيمُ الْمُتَّصِلُ بِالْجِسْمِ أَلَمُهُ لَيْسَ بِمُدْرَكٍ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ فَمَنْ كَانَ لَا يُدْرِكُ رُوحَ مَنْ يَمْشِي مَعَهُ وَيُكَلِّمُهُ وَيَأْتَمِنُهُ وَيُعَامِلُهُ فَكَيْفَ يُدْرِكُهُ إِذَا صَارَ من عَالَمِ الْآخِرَةِ لَيْسَ مِنْ عَالَمِ الدُّنْيَا؟ وَأَيْضًا فَاحْتِجَابُ ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْبَالِغَةِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ, وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ" 3 وَأَيْضًا فَأَكْثَرُ أُمُورِ الْإِيمَانِ اعْتِقَادَاتٌ بَاطِنَةٌ مِنَّا لِأُمُورٍ غَائِبَةٍ عَنَّا وَهِيَ أَعْلَى صِفَاتِ أَهْلِ الْإِيمَانِ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [الْبَقَرَةِ: 3] وَذَلِكَ غَائِبٌ عَنَّا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَنَحْنُ نَعْلَمُهُ عَنِ اللَّهِ عِلْمَ الْيَقِينِ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ صَارَ الْغَيْبُ شَهَادَةً

طور بواسطة نورين ميديا © 2015