مُتَّخِذًا لِذَلِكَ الْمَكَانِ ... عِيدًا كَفِعْلِ عَابِدِي الْأَوْثَانِ
"هَذَا" أَيِ: الْأَمْرُ وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ "وَمِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ" الَّتِي لَا يَفْعَلُهَا غَيْرُهُمْ وَلَا تَلِيقُ إِلَّا بِعُقُولِهِمُ السَّخِيفَةِ وَأَفْئِدَتِهِمُ الضَّعِيفَةِ وَقُلُوبِهِمُ الْمَطْبُوعِ عَلَيْهَا وَأَبْصَارِهِمُ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهَا "مَا" أَيِ: الَّذِي "لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ" عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ وَلَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ "بِأَنْ يُعَظَّمَا" بِأَلْفِ الْإِطْلَاقِ, وَأَنْ وَمَدْخُولُهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ أَيْ: لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِتَعْظِيمِهِ ذَلِكَ التَّعْظِيمَ الَّذِي مَنَحَهُ إِيَّاهُ مَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ عِبَادِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْأَوْلِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ, بَلْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ وَلَا بَيْنَ طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ, فَيَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا وَهُوَ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلَهُ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ لِلَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ذَلِكَ وَيَرْضَاهُ, وَيُكَذِّبُ الرُّسُلَ وَيَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ, وَيُوَالِي أَعْدَاءَ اللَّهِ وَهُوَ يَظُنُّهُمْ أَوْلِيَاءَهُ, كَفِعْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يُجَاهِرُونَ اللَّهَ بِالْمَعَاصِي وَيُكَذِّبُونَ كِتَابَهُ وَيُغَيِّرُونَهُ وَيُبَدِّلُونَهُ وَيُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَيَنْسِبُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْوَلَدَ وَيَفْعَلُونَ الْأَفَاعِيلَ وَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ, وَهُمُ الْبُغَضَاءُ إِلَى اللَّهِ وَأَعْدَاؤُهُ. وَسَبَبُ هَذَا كُلِّهِ -فِي الْأُمَمِ الْأُولَى وَالْأُخْرَى- هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنِ الشَّرِيعَةِ وَعَدَمُ الِاهْتِمَامِ لِمَعْرِفَةِ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ الْكُتُبُ مِنَ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ, وَمَعْرِفَةِ مَا يَجِبُ لِلَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِعْلُهُ وَمَا يَجِبُ تَرْكُهُ "كَمَنْ يَلُذْ ببقعة" أي: يعذ بِهَا وَيَخْتَلِفُ إِلَيْهَا وَيَتَبَرَّكُ بِهَا وَلَوْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهَا, وَتَقَدَّمَ تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ, فَيَخْرُجُ بِهَذَا الْقَيْدِ مَا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَعْظِيمِهِ, كَتَعْظِيمِ بَيْتِهِ الْحَرَامِ بِالْحَجِّ إِلَيْهِ وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللَّهِ مِنَ الْمَشَاعِرِ وَالْمَوَاقِفِ وَغَيْرِهَا, فَإِنَّ ذَلِكَ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي أَمَرَ بِذَلِكَ, لَا لِتِلْكَ الْبُقْعَةِ ذَاتِهَا كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ, وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ1. وَكَذَلِكَ التَّعْظِيمُ أَيْضًا نَفْسُهُ إِنَّمَا أَرَدْنَا مَنْعَ تَعْظِيمٍ لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ, لَا الْمَأْذُونِ فِيهِ،