وَالْفَاسِقُ الْمَلِّيُّ ذُو الْعِصْيَانِ ... لَمْ يُنْفَ عَنْهُ مُطَلَقُ الْإِيمَانِ
لَكِنْ بِقَدْرِ الْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي ... إِيمَانُهُ مَا زَالَ فِي انْتِقَاصِ
هَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ أَنَّ فَاسِقَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا يُنْفَى عَنْهُ مُطْلَقُ الْإِيمَانِ بِفُسُوقِهِ, وَلَا يُوصَفُ بِالْإِيمَانِ التَّامِّ. وَلَكِنْ هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ. أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ, فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ. فَلَا يُعْطَى الِاسْمُ الْمُطْلَقُ وَلَا يُسْلَبُ مُطْلَقَ الِاسْمِ. وَالْمُرَادُ بِالْفِسْقِ هُنَا هُوَ الْأَصْغَرُ. وَهُوَ عَمَلُ الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ الَّتِي سَمَّاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِسْقًا وَكُفْرًا وَظُلْمًا مَعَ إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَامِلِهَا. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْكَاذِبَ فَاسِقًا فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الْحُجُرَاتِ: 6] وَمَعَ هَذَا لَمْ يَخْرُجْ ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ مِنَ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَمْ يَنْفِ عَنْهُ الْإِيمَانَ مُطْلَقًا وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَرَيَانِ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ" 1. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ" 2 الْحَدِيثَ وَغَيْرَهُ.
وَقَدِ اسْتَبَّ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى عَهْدِهِ وَمِنْ حُضُورِهِ. فَوَعَظَهُمْ وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ وَلَمْ يُكَفِّرْهُمْ بَلْ بَقُوا أَنْصَارَهُ وَوُزَرَاءَهُ فِي الدِّينِ. وَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الْحُجُرَاتِ: 9] فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى كُلًّا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ