فحف بالدير أهل العسكر، وكان في من خرج معه رجل من كلب، يقال له سنان، وكان فارساً ومغنياً محسناً، وشجاعاً، وبغيرة سليمان عبد الملك عارفاً، ولم يك يسمع له صوت في عسكره، فزاره في تلك الليلة فتية من أهله، فعشاهم، وسقاهم، فأخذ فيهم الشراب، فقالوا: يا سنان! ما أكرمتنا بشيء أن لم تسمعنا صوتك. فترنم فغناهم، فقال:
مَحجُوبةٌ سَمِعَتْ صَوْتي فأرّقَهَا ... مِنْ آخِرِ اللّيلِ لمّا بَلّهَا السّحَرُ.
تَثْني عَلى فَخْذِهَا مُثْنَى مُعَصْفَرَة ... وَالحَلْيُ مِنْهَا عَلى لبّاتِهَا حَصِرُ.
لم يَحجُبِ الصّوْتَ أحرَاسٌ وَلا غَلَقٌ ... فَدَمعُهَا لطُرُوقِ الصّوْتِ مُنحَدِرُ.
في لَيلَةِ النّصْفِ ما يَدرِي مُضَاجِعُها ... أوَجْهُهَا عِنْدَهُ أبْهَى أمِ القَمَرُ.
لَوْ خُلّيَتْ لمَشَتْ نَحْوِي عَلى قَدمٍ ... تَكَادُ من رِقّةٍ للمَشيِ تَنْفَطِرُ.
فلما سمع سليمان الصوت قام فزعاً يتفهم ما سمع، وكان معه جاريته عوان، ولم يكن لها نظير في زمانها في الجمال والتمام والحذق بالغناء، وكان يحبها، فلما فهم الصوت ارتعدت فرائصه غيرة، ثم أقبل نحو عوان، وهي خلف ستر، فكشف الستر رويداً لينظر أنائمة هي أم مستيقظة، فوجدها مستيقظة، وهي صفة الأبيات: عليها معصفرة، وحليها على لباتها، فلما أحست به، وعلمت بأنه قد علم بأنها مستيقظة قالت: يا أمير المؤمنين! قاتل الله الشاعر حيث يقول:
ألا رُبّ صَوْتٍ جَاءَني مِنْ مُشَوّهٍ ... قَبيحِ المُحَيّا وَاضِعِ الأبِ واَلجَدّ.
قَصِيرِ نِجَادِ السّيفِ جَعْدٍ بَنَانُهُ ... إلى أمَةٍ يُعزَى مَعاً وَإلى عَبْدِ.