أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين إن لم يكن سماعاً فإجازة، حدثنا المعافى بن زكريا أبو النضر العقيلي، حدثنا يعقوب بن نعيم الكاتب، حدثني محمد بن ضو التيمي، سمعت إسماعيل بن جامع السهمي يقول: ضمني الدهر ضماً شديداً بمكة، فانتقلت منها بعيالي إلى المدينة، فأصبحت يوماً ولا أملك إلا ثلاثة دراهم، فخرجت، وهي في كمي. فإذا بجارية حميراء على رقبتها جرة تريد الركي، وتمشي بين يدي، وتترنم بصوت شجي، تقول فيه:
شَكَوْنَا إلى أحبَابِنَا طولَ لَيلِنا، ... فقالوا لَنا: ما أقصرَ اللّيلَ عِندنَا
وَذاكَ لأنّ النّوْمَ يَغشَى عُيُونَهُمْ ... سرَاعاً، وَلا يَغشَى لنَا النّوم أعيُنَا
ما دَنَا اللّيلُ المُضرّ بذِي الهَوَى، ... جَزِعنا، وَهُم يَستبشِرُونَ إذا دَنَا
فلَوْ أنّهُمْ كانُوا يُلاقُونَ مِثلَ مَا ... نُلاقي لَكَانُوا في المَضَاجِعِ مِثلَنا
فوالله ما دار لي منه حرف واحد. فقلت لها: يا جارية! ما أدري أوجهك أحسن أم صوتك أم جرمك، فلو شئت أعدته علي. فقالت: حباً وكرامةً، ثم أسندت ظهرها إلى جدار كان بالقرب منها، ورفعت إحدى رجليها فوضعتها على ركبتها، وحطت الجرة على ساقها، واندفعت تغني بأحسن صوت، فوالله ما دار لي منه حرف واحد، فقلت: لقد أحسنت وتفضلت، فلو شئت أعدته مرةً أخرى.
فقطبت وكلحت، وقالت: ما أعجب هذا! أحدكم يجيء إلى الجارية عليها ضريبة، فيقول لها: أعيدي مرةً بعد أخرى، فضربت يدي إلى ثلاثة دراهم، ودفعتها إليها، وقلت لها: أقيمي بهذا وجهك اليوم إلى أن نلتقي، فأخذتها كالمتكرهة، وقالت: الآن تريد أن تأخذ عني صوتاً أحسبك تأخذ عليه