وأخبرنا أبو محمد الحسن بن علي، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا محمد بن الحسن بن دريد، حدثنا الرياشي، حدثنا الأصمعي قال: مررت أنا وصاحب لي بجارية عند قبر، لم أر أحسن ولا أجمل منها، وعليها ثياب نظيفة وحلي كثير، وهي تبكي على القبر، فلم نزل نتعجب من جمالها وزينتها وحزنها، فقلت: يا هذه! علام هذا الحزن الشديد؟ فبكت، ثم أنشأت تقول:
فَلا تَسألاني فيمَ حُزْني، فإنّني ... رَهينَةُ هّذا القَبرِ يَا فَتَيانِ
وَإني لأستَحييهِ وَالتُّرْبُ بَينَنَا، ... كما كنتُ أستَحييهِ حينَ يَرَاني
فعجبنا منها ومن ظرفها وجمالها، واستحيينا منها، فتقدمنا قليلاً، ثم جلسنا نسمع ما تقول، ولا ترانا، ولا تعلم بنا، فسمعناها تقول:
يا صَاحبَ القبرِ يا من كان يؤنسني ... وكانَ يُكثِرُ في الدُّنيا مُؤاتَاتي
قد زُرتُ قبرَك في حَلْيي وَفي حُللي ... كأنّني لَستُ من أهلِ المُصيباتِ
لزمتُ ما كنتَ تَهوَى أن تَرَاهُ وَما ... قد كنتَ تَألَفُه من كلِّ هيئاتي
فَمنْ رآني رأى عَبْرَى مُوَلَّهَةً، ... مَشهورَةَ الزِّيِّ تَبكي بينَ أموَاتِ
فلم نزل قعوداً حتى انصرفت واتبعناها، حتى عرفنا موضعها، ومن هي، فلما خرجت إلى هارون الرشيد قال لي: يا أصمعي! ما أعجب ما رأيت بالبصرة؟ فأخبرته خبرها، فكتب إلى صاحب البصرة أن يمهرها عشرة آلاف وتجهز وتحمل إليه، فحملت إلى هارون، وقد سقمت حزناً على الميت، فلما وصلت إلى المداين ماتت، فقلما ذكرها هارون إلا دمعت عيناه.