أراد الرجوع إلى منزله لئلا يراها، فقالت: يا فتى لا ترجع، فلا كان الملتقى بعد هذا أبداً إلا بين يدي الله، عز وجل. وبكت بكاءً كثيراُ، ثم قالت: أسأل الله، عز وجل. الذي بيده مفاتيح قلبك أن يسهل ما قد عسر من أمرك. ثم تبعته فقالت: امنن علي بموعظة أحملها عنك، وأوصني بوصية أعمل عليها! فقال لها الفتى: أوصيك بحفظ نفسك من نفسك وأذكرك قوله عز وجل: وهو الذي يتوفاكم بالليل، ويعلم ما جرحتم بالنهار.
قال: فأطرقت، وبكت بكاءً أشد من بكائها الأول، ثم أفاقت، فقالت: والله ما حملت أنثى ولا وضعت إنساً كمثلك في مصري وأحيائي. وذكرت أبياتاً آخرها:
لألبسَنّ لهذا الأمرِ مِدْرَعَةً، ... ولا ركنتُ إلى لذّاتِ دنُيايا.
ثم لزمت بيتها فأخذت بالعبادة. قال: فكانت إذا أجهدها الأمر تدعو بكتابه فتضعه على عينيها، فيقال لها: وهل يغني هذا شيئاً؟ فتقول: وهل لي دواء غيره؟ وكان إذا جن عليها الليل قامت إلى محرابها، فإذا صلت قالت:
يا وَارِثَ الأرْض هبْ لي منك مغفِرَةً، ... وحلّ عني هوى ذا الهاجِرِ الدّاني.
وانظُرْ إلى خَلّتي، يا مُشتَكى حَزَني، ... بنَظرَةٍ منك تجلو كلَّ أحزَاني.
فلم تزل على ذلك حتى ماتت كمداً، وكان الفتى يذكرها بعد موتها ثم يبكي عليها، فيقال له: مم بكاؤك، وأنت قد أيستها؟ فيقول: إني ذقت طعمها مني في أول أمرها وجعلت قطعها ذخيرةً لي عند الله، عز وجل،