المجنون خبرها، وما هي عليه من الجمال والعقل، وكان صباً بمحادثة النساء، فعمد إلى أحسن ثيابه، فلبسها وتهيأ بأحسن هيئة، وركب ناقةً له كريمة، وأتاها، فلما جلس إليها وتحدث بين يديها، أعجبته، ووقعت بقلبه. فظل يومه يحدثها وتحدثه حتى أمسى، فانصرف، فبات بأطول ليلة من الليلة الأولى، وجهد أن يغمض، فلم يقدر على ذلك، فأنشأ يقول:
نَهارِي نَهارُ النّاسِ، حَتى إذا بَدَا ... ليَ اللّيلُ هَزّتْني إلَيكِ المَضَاجِعُ
أُقَضّي نَهارِي بالحَديثِ، وَبالمُنى ... وَيَجمَعُني وَالهَمَّ، باللّيلِ، جَامعُ
وأدام زيارتها، وترك إتيان كل من كان يأتيه، فيتحدث إليه غيرها، وكان يأتيها كل يوم فلا يزال عندها نهاره أجمع، حتى إذا أمسى انصرف.
وإنه خرج ذات يوم يريد زيارتها، فلما قرب من منزلها لقيته جارية عسراء، فتطير من لقائها فأنشأ يقول:
وكيفَ ترَجّي وَصْلَ ليلى، وَقد جَرَى ... يجدُّ القُوَى من لَيلَ أعسرُ حاسرُ
صَديعُ العَصَا جدبُ الزّمانِ إذا انتَحى ... لوَصلِ امرِئٍ لم يُقضَ منه الأوَاطرُ
ثم صار إليها من غدٍ، فلم يزل عندها. فلما رأت ليلى ذلك منه وقع في قلبها مثل الذي وقع لها في قلبه، فجاء يوماً كما كان يجيء، فأقبل يحدثها، وجعلت هي تعرض عنه بوجهها وتقبل على غيره، كل ذلك تريد أن تمتحنه، وتعلم ما لها في قلبه، فلما رأى ذلك منها اشتد عليه، وجزع حتى عرف ذلك فيه، فلما خافت عليه، أقبلت كالمشيرة إليه، فقالت:
كِلانَا مُظهِرٌ للنّاسِ بُغضاً، ... وكلٌّ عندَ صَاحِبِهِ مَكينُ