يدعوك فرجعت، فوجدته جالساً ينتظرني، فسلمت وجلست، فقال: ويحك أرأيت ما امتحنا به؟ قلت: نعم أيها الأمير. فقال: لا بد من الوفاء لها، وما اثق في هذا بغيرك، فتأهب لتحملها غلى بغداد، فإذا غنت هناك فاصرفها. فقلت: سمعاً وطاعةً. قال: ثم قمت وتأهبت وأمرها بالتأهب وأصحبها جاريةً سوادء تخدمها، وأمر بناقةٍ ومحمل، فأدخلت فيهن وجعلها معين ثم دخلنا الطريق إلى مكة مع القافلة، فقضينا حجنا، ثم دخلنا في قافلة العراق، فلما وردنا القادسية، أتتني السوداء عنها، فقالت: تقول لك سيدتي: أين نحن؟ فقلت لها: نحن نزول بالقادسية. فانصرفت إليها وأخبرتها، فلم أنشب أن سمعت صوتها قد اندفع بالغناء:
لمّا وَرَدنَا القَادِسِيّ ... ة حيثُ مجْتَمَعُ الرّفِاقِ.
وَشممتُ من أرْض الحجا ... زِ نَسيمَ أنفاسِ العرَاقِ.
أيْقَنتُ لي ولمَن أُحِ ... بّ بجمعِ شَملٍ واتّفاقِ.
وَضَحِكتُ من فَرحِ اللّقا ... ء كما بَكيتُ من الفرَاقِ.
فتصايح الناس من أقطار القافلة: أعيدي بالله! فما سمع لها كلمة. قالك ثم نزلنا بالياسرية، وبينها وبين بغداد قريب في بساتين متصلة من الناس فيبيتون ليلتهم، ثم يبكرون لدخول بغداد، فلما كان قرب الصباح، إذا أنا بالسوداء قد أتتني ملهوفة. فقلت: ما لك؟ فقالت: إن سيدتي ليست حاضرةً! فقلت: وأين هي؟ قالت: والله ما أدري. قال: فلم أحس لها أثراً، فدخلت بغداد، وقضيت حوائجي بها، وانصرفت إلى تميم فأخبرته الخبر، فعظم ذلك عليه، ثم ما زال بعد ذلك ذاكراً لها واجماً عليها.