واسطة بين الله والعالم، تعمل الإرادة الإلهية عن طريقه. "ونسبة هذا المطاع إلى الوجود الحق (الله) نسبة الشمس إلى النور المحض".
أما قول الغزالى "إن "المطاع" موصوف بصفة تنافي الوحدانية المحضة" فذلك لأن الأمر الإلهى مبدأ الكثرة والتعدد في الوجود؛ والوحدانية المحضة لا تعدد فيها وهى من صفات الله وحده. وهنا يلتقى الغزالى في وصفه للمطاع مع أفلوطين في وصفه للعقل الأول مع الاختلاف الجوهرى بين نظريتى هذين المفكرين: إذ الأمر الإلهى عند الغزالى قديم قدم الله لأنه من كلام الله القديم، والعقل الأول عند أفلوطين موجود فاض عن الواحد الأول وليس من الواحد الأول في شىء.
ونظرية الغزالى في "المطاع" امتداد لنظرية الأشاعرة في الكلام الإلهى وفي القرآن من حيث هو كلام الله، إلا أن الغزالى تجاوز نظرية الأشاعرة البسيطة وعمّقها ووضعها في صورة نظرية جديدة من نظريات الإسلاميين في "الكلمة" Iogos ووجد لها أصولاً مقررة في نصوص القرآن.
لم يرض الغزالى عن قول من قال إن الرب المقدس عن معانى الصفات هو "المطاع"، ولا عن قول من قال إن المطاع هو الرب المحرك للفلك الأقصى والمسيطر على العقول المحركة للأفلاك الأخرى؛ ولا عن قول من قال إن الله هو المحرك على الحقيقة، ولكن لا على سبيل المباشرة، بل بوساطة ملك (عقل) محرك للأفلاك. وإنما رضى بقول الواصلين، وهو أن المطاع شىء غير الذات الإلهية، متصف بصفات تنافي الوحدانية المحضة والكمال البالغ الذى لا يتصف به غير الله؛ وأن هذا "المطاع" يحرك الأفلاك ويدبر الكون وعن طريقه يتوجه الواصلون من الذي يحرك السموات ومن الذى أمر بتحريكها إلى الذى فطر السماوات؛ أى أنه عن طريق معرفة الأمر الإلهى يصل الواصلون إلى الله.
وهكذا نرى الغزالى في سبيل محافظته على تنزيه الله تنزيهاً مطلقاً ووصفه بالوحدانية المحضة التى لا تتضمن أى معنى من معانى التعدد، يشخص "الأمر الإلهى" كما شخص الأشاعرة الكلام الإلهى، وينسب إليه دور تحريك الأفلاك وتدبير الكون. إن الغزالى بهذا قد بالغ في التنزيه إلى الحد الذى جعل من الله جوهراً مجرداً عن كل نسبة إلى خلقه، أى مجرداً عن صفات الإلهية، وهذا ما لا أظنه يرضاه وإن ساق إليه منطق كلامه.
ويستبعد الأستاذ نيكولسون أن يكون "المطاع" في نظرية الغزالى هو قطب الصوفية على أساس أن هذا من أقوال الاسماعيلية الباطنية والغزالى يرفض مذهبهم جملة: ويقول في مقال له عن فكرة الشخصية في الإسلام:
"أما أنا فأميل إلى الاعتقاد بأن نظرية الغزالى في "المطاع" تتفق مع نظرية المتأخرين من الصوفية، وأن "المطاع" يمثل الصورة المثالية التى يسمونها "الحقيقة المحمدية" أو "الروح المحمدى" -الإنسان السماوى الذى خلقه الله على صورته - ويعتبرونه قوة كونية يتوقف عليها نظام العالم وحفظه".
ولعل الذى أوحى إلى الأستاذ نيكولسون بهذه الفكرة ما ورد في القرآن من آيات عن "المطاع" في مثل قوله تعالى {مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 21] وقوله: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] وقوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [النساء: 59] . ولكن الذى أراه هو أنه ربما كان لهذه الآيات مغزاها الفلسفى في نظريات الصوفية المتأخرين التى تأثرت بالأفلاطونية الحديثة، ولكن لا أثر لها في نظرية الغزالى. وأغلب الظن أن الغزالى كان يفهم من إطاعة رسول الله المعنى الدينى لا أى معنى فلسفى، وأنه أراد بالمطاع "الأمر الإلهى" الذى به تنفذ الإرادة الإلهية وبه يحدث الخلق.
نظرية المطاع ومشكلة الصفات الإلهية:
اتخذ الغزالى في الفصل الثالث مسألة الصفات الإلهية محوراً لتفكيره ورفض أقوال عدد كبير من الفرق الإسلامية وأصحاب المذاهب الأخرى غير الإسلامية ممن أطلق عليهم اسم المحجوبين، فظهر له أن منهم من قال بالتشبيه أو بالغ فيه حتى وقع في التجسيم الصريح، ومنهم من جنح إلى التنزيه المطلق كالمعتزلة وبعض فلاسفة الإسلام. والغزالى أشعرى المذهب؛ والأشاعرة يثبتون لله الصفات التى وصف بها نفسه ولكنهم يقولون إنها مغايرة لذاته وقديمة قدم ذاته كما أنها مختلفة الواحدة عن الأخرى. وينتهون من ذلك إلى تقرير أن صفات الله لا هى هو ولا هى غيره. فالله عالم بعلم وقادر بقدرة ومتكلم بكلام، ولكن علمه وقدرته وكلامه غير ذاته، وهى في الوقت نفسه ليست أموراً منقطعة الصلة تماماً بذاته؛ بل هى بوجه من الوجوه متصلة بالذات غير منفكة عنها.
والذى يعنينا من مشكلة الصفات هنا هو صفة "الكلام" التى نشأ عن الخوض فيها خلاف عنيد بين المعتزلة وأهل السنة ثم بينهم وبين الأشاعرة: وذلك لأن البحث عن صفة الكلام جرهم إلى البحث في "الأمر الإلهى" الذى فسرنا به "المطاع" في نظرية الغزالى. فالأشاعرة يذهبون إلى القول بقدم كلام الله - ومنه "الأمر الإلهى" ويستندون في ذلك إلى آيات وردت في القرآن مثل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ} وقوله: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} وقوله {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} .
وهذه الآيات صريحة في أن أمر الله "المطاع" قديم قدم الله، وأنه سابق على الخلق، وأن به تقوم السماوات والأرض. والأمر الإلهى ليس هو الله، ولا هو غيره على حد قولهم.
كل هذا من مذهب الأشاعرة الذى ظل الغزالى أميناً عليه لا يتعداه في رسالة المشكاة أو في غيرها من كتبه. غير أنه أضاف إليه إضافة جوهرية في الفقرة الأخيرة من المشكاة، وهى فقرة صوفية النزعة لا صلة لها بالمشكلة الكلامية سابقة الذكر: وذلك حين يقرر أن "الواصلين" يدركون الله