تعالى الله عن ذلك (?).
وقال أبو المظفر بن السمعاني: سبيلُ معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة، دون محض القياس والعقل، فمن عَدَل عن التوقيف فيه ضَلَّ، وتاه في بحار الْحَيْرة لم يبلغ شفاء العين، ولا ما يطمئن به القلب؛ لأن القدر سر من أسرار الله تعالى، اختَصَّ العليم الخبير به، وضرب دونه الأستار، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم؛ لما عَلِمَه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل، ولا ملك مقرب. وقيل: إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة، ولا ينكشف لهم قبل دخولها. انتهى.
وقد أخرج الطبراني بسند حسن من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- رفعه: "إذا ذُكِر القدر فأمسكوا". وأخرج مسلم من طريق طاوس: "أدركت ناسا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولون: "كلُّ شيء بقدر". وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كلُّ شيء بقدر، حتى العجز والكيس".
قال الحافظ رحمه الله: و"الْكَيْسُ" -بفتح الكاف-: ضد العجز، ومعناه: الْحِذْق في الأمور، ويتناول أمور الدنيا والآخرة، ومعناه: أن كل شيء لا يقع في الوجود إلا وقد سبق به علم الله عز وجل ومشيئته، وإنما جعلهما في الحديث غايةً لذلك؛ للإشارة إلى أن أفعالنا، وإن كانت معلومة لنا، ومرادةَ منا فلا تقع مع ذلك منا إلا بمشيئة الله.
وهذا الذي ذكره طاوس مرفوعا وموقوفا مطابق لقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، فإن هذه الآية نص في أن الله خالق كل شيء، ومُقَدِّره، وهو أنصّ من قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].
واشتهر على ألسنة السلف والخلف أن هذه الآية نزلت في القدرية. وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "جاء مشركو قريش يخاصمون النبي -صلى الله عليه وسلم- في القدر،