وقد حَكَى المصنفون في المقالات، عن طوائف من القدرية إنكار كون البارىء عالما بشيء من أعمال العباد، قبل وقوعها منهم، وإنما يعلمها بعد كونها، قالوا: لأنه لا فائدة لعلمه بها قبل إيجادها، وهو عبثٌ، وهو على الله محالٌ.
قال القرطبي وغيره: وقد روي عن مالك رحمه الله تعالى أنه فسّر القدريّة بنحو ذلك، وهذا المذهب هو الذي وقع لأهل البصرة، وهو الذي أنكره ابن عمر، ولا شكّ في تكفير من يذهب إلى ذلك، فإنه جحد معلومٍ من الشرع ضرورةً، ولذلك تبرّأ منهم ابن عمر، وأفتى بأنهم لا تقبل منهم أعمالهم، ولا نفقاتهم، وأنهم كما قال الله تعالى فيهم: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} الآية [التوبة: 54].
وهذا المذهب هو مذهب طائفة منهم تُسمّى السُّكْبيّة، وقد تُرك اليوم، فلا يُعرف من يُنسب إليه من المتأخّرين، من أهل البدع المشهورين. والقدرية اليومَ مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد، قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم، وواقعة منهم على جهة الاستقلال، وهو مع كونه مذهبا باطلًا أخفّ من المذهب الأول، وأما المتأخرون منهم، فأنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد؛ فرارًا من تعلق القديم بالمحدث، وهم مخصومون بما قال الشافعي: إن سلم القدري العلمَ خُصِم -يعني يقال له: أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم، فإن منع وافق قول أهل السنة، وإن أجاز لزمه نسبة الجهل، تعالى الله عن ذلك (?).
وقال القرطبيّ أيضًا: والإيمان بالقدر: هو التصديق بما تقدّم ذكره، وحاصله هو ما دلّ عليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] وقوله {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]. وإجماع السلف والخلف على صدق قول القائل: ما شاء الله كان، وما لم