وهذا فيه أيضا نظر، فإن الداعي إلى فعل المعاصي، قد يكون قويا لا صبر معه للعبد على الامتناع عن فعل المعصية، مع القدرة عليها، فيحتاج للكف عنها حينئذ، إلى مجاهدة شديدة، وربما كانت أشق على النفوس من مجرد مجاهدة النفوس على فعل الطاعات، ولهذا يوجد كثيرا من يجتهد في فعل الطاعات، ولا يَقْوَى على ترك المحرمات. وقد سئل عمر عن قوم يشتهون المعصية، ولا يعملون بها، فقال: أولئك قوم امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم. وقال يزيد بن ميسرة: يقول الله في بعض الكتب: أيها الشاب التارك لشهوته، المتبذل في شبابه من أجلي، أنت عندي كبعض ملائكتي، وقال: ما أشد الشهوة في الجسد، إنها مثل حريق النار، وكيف ينجو منها الحصوريون؟ (?).

والتحقيق في هذا أن الله لا يكلف العباد من الأعمال ما لا طاقة لهم به، وقد أسقط عنهم كثيرا من الأعمال بمجرد المشقة؛ رخصة عليهم، ورحمة لهم، وأما المناهي فلم يُعذر أحد بارتكابها بقوة الداعي والشهوات، بل كلفهم تركها على كل حال، وإنما أباح أن يتناولوا من المطاعم المحرمة عند الضرورة، ما تبقى معه الحياة، لا لأجل التلذذ والشهوة، ومن هنا يعلم صحة ما قال الإمام أحمد رحمه الله: إن النهي أشد من الأمر. وقد رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث ثوبان وغيره، أنه قال: "استقيموا، ولن تحصوا" (?)، يعني لن تقدروا على الاستقامة كلها. وروى الحكم بن حزن الْكُلَفيّ قال: وفدت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فشهدت معه الجمعة، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، متوكئا على عصا، أو قوس، فحمد الله، وأثنى عليه بكلمات، خفيفات طيبات مباركات، ثم قال: "يا أيها الناس إنكم لن تطيقوا، ولن تفعلوا كل ما أمرتكم به، ولكن سددوا، وأبشروا"، أخرجه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015