وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: الحياء: انقباض، وحشمة يجدها الإنسان من نفسه عند ما يُطّلع منه على ما يُستقبح، ويُذمّ عليه، وأصله غريزيّ في الفطرة، ومنه مكتسبٌ للإنسان، كما قال بعض الحكماء في العقل:

رَأَيْتُ الْعَقْلَ عَقْلَيْنِ ... فَمَطْبُوعٌ وَمَصْنُوعُ

وَلَا يَنْفَعُ مَصْنُوعٌ ... إِذَا لَمْ يَكُ مَطْبُوعُ

كمَا لَا تَنْفَعُ الْعَيْنُ ... وَضَوْءُ الشَّمْس مَمْنُوعُ

وهذا المكتسب هو الذي جعله الشرع من الإيمان، وهو الذي يُكلّف به، وأما الغريزيّ، فلا يُكلّف به، إذ ليس ذلك من كسبنا، ولا في وُسعنا، ولم يُكلّف الله نفسًا إلا وسعها، غير أن هذا الغريزيّ يَحمل على المكتسب، ويُعين عليه، ولذلك قال -رضي الله عنه-: "الحياء لا يأتي إلا بخير"، "والحياء خير كلّه". وأول الحياء، وأولاه: الحياء من الله تعالى، وهو أن لا يراك حيث نهاك، وذلك لا يكون إلا عن معرفة بالله تعالى كاملة، ومراقبة له حاصلة، وهي المعبّر عنها بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك".

وقد روى الترمذيّ من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "استحيوا من الله حقَّ الحياء"، فقالوا: إنا نستحيي، والحمد لله، فقال: "ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حقّ الحياء أن تحفظ الرأس، وما حوى، والبطن وما وعى، وتذكر الموت والبِلَى، فمن فعل ذلك، فقد استحى من الله حقّ الحياء" (?).

قال: وأهل المعرفة في هذا الحياء منقسمون، كما أنهم في أحوالهم متفاوتون، وقد كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- جُمع له كمال نوعي الحياء، فكان في الحياء الغريزيّ أشدّ حياء من العذراء في خِدرها، وفي حيائه الكسبيّ في ذِرْوتها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى (?).

[فإن قيل]: الحياء من الغرائز، فكيف جعل شعبة من الإيمان؟.

[أجيب]: بأنه قد يكون غريزة، وقد يكون تخلقا، ولكن استعماله على وفق

طور بواسطة نورين ميديا © 2015