فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعدُ، فإن الناس يكثرون، وَيقِلّ الأنصار، حتى يكونوا في الناس بمنزلة الملح في الطعام، فمن وَلِيَ منكم شيئا، يضُرّ فيه قومًا، وينفع فيه آخرين، فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، فكان آخر مجلس جلس به النبي -صلى الله عليه وسلم- (?).
(قَالَ) عمر -رضي الله عنه- (لَكِنِّي) استدراك من مقدّر أي هذا الذي ذكرتموه، وإن كان مما يُمشَى من أجله، لكنه الآن ليس هو وحده حاملًا لمشيي معكم، وإنما (مَشَيْتُ مَعَكُمْ لَحِدِيثٍ) أي لأجل بيان حديث (أَرَدْتُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ بِهِ، وَأَرَدْتُ أَنْ تَحْفَظُوهُ لَمِمْشَايَ مَعَكُمْ) يحتمل أن يكون "ممشى" مصدرًا ميميّا، ويحتمل أن يكون ظرفًا زمانيّا، أو مكانيّا: أي وقت مشيي، أو مكان مشيي.
والمعنى: إنما مشيت معكم ليكون ممشاي هذا حاملًا لكم، وباعثًا إياكم على أن تحفظوا ما أُحدّثكم به؛ لأنهم إذا تذكّروا مشيه معهم مكانًا بعيدًا، مع كبر سنّه، ووجاهته، وكونه خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حملهم ذلك كله على أن يعتنوا بحفظ ما يُحدّثهم به، والعمل بمقتضاه.
ثم بيّن الحديث الذي يريد أن يحدّثهم به، بقوله: (إِنَّكُمْ تَقْدَمُونَ) بفتح الدال، من باب تَعِبَ (عَلَى قَوْمٍ، لِلْقُرْآنِ) بكسر اللام، وهي لام الجرّ، والجار والمجرور خبر مقدّم لقوله" "هزيز" (في صُدُورِهِمْ) متعلّق بحال مقدّر (هَزِيزٌ كَهَزِيزِ الْمِرْجَلِ) "الهزيز" -بفتح الهاء، وكسر الزاي-: صوت غَلَيَان القِدْر، وتردُّد صوت الرعد. قاله في "القاموس". وقال في "اللسان": هَزِيز الريح: دَويّها عند هزّها الشجر. قال امرؤ القيس [من الطويل]:
إِذَا مَا جَرَى شَأْوَيْنِ وَابْتَلَّ عِطْفُهُ ... تَقُولُ هَزِيزُ الرِّيحِ مَرَّتْ بِأَثْأَبِ (?)
و"الْمِرْجَل" -بكسر الميم، وسكون الراء، وفتح الجيم-: قِدرٌ من نُحاس، وقيل