من كان عندها فخَرَج عنها، وبَقِيتْ هي وعمرَ في البيتِ، ليس معهما أحدٌ، فكَشَفَ عمرُ عن السَّيف، وقال: لَتَصدُقِني -وكان عمرُ رضي الله عنه لا يُكذَّب- فقالت: على رِسْلكَ يا أميرَ المؤمنينَ، فوالله لأَصدُقنَّكَ، إنَّ عجوزًا كانت تَدخلُ عليَّ، فاتَّخذتُها أُمًّا، وكانت تقومُ من أَمري بما تقومُ به الوالدةُ، وكنت لها بمنزلةِ البنتِ، فأَمضَتْ بذلك حينًا، ثم إنها قالت: يا بُنيَّة! إنَّه قد عَرَضَ لي سفرٌ، ولي بنتٌ في موضعٍ أتخوَّفُ عليها فيه أنْ تضيعَ، وقد أَحبَبتُ أن أَضمُّها إليكِ حتى أرجعَ من سفري، فعَمَدَت إلى ابنٍ لها شابٍّ أمردَ، فهَيَّأتْهُ كهيأةِ الجاريةِ، فأتتني به، لا أَشكُّ أنَّه جاريةٌ، فكان يرى منِّي ما ترى الجاريةُ من الجارية، حتى اغتَفَلني يومًا وأنا نائمةٌ، فما شَعَرتُ حتى عَلاَني وخَالَطَني، فمَدَدتُ يدي إلى شَفرةٍ كانت إلى جنبي فقَتَلتُهُ، ثم أَمَرتُ به، فأُلقِيَ حيثُ رأيتَ، فاشتَمَلتُ منه على هذا الصَّبيِّ، فلمَّا وَضَعتُهُ أَلقَيتُهُ في موضعِ أبيه، فهذا واللهِ خَبَرُهُما على ما أَعلَمتُكَ. قال عمرُ: صَدَقتِ، باركَ اللهُ فيكِ، ثم أوصاها وَوَعَظَها، ودعا لها وخَرَج، وقال لأبيها، باركَ اللهُ لكَ في ابنتِكَ، فنِعْمَ الابنةُ ابنتُكَ، وقد وَعَظتُها وأَمَرتُها، فقال الشيخ: وَصَلكَ اللهُ يا أميرَ المؤمنينَ، وجَزَاك خيرًا عن رعيتِكَ.
هذا أثر غريب، وفيه انقطاع، بل معضل.
وفيه فوائد كثيرة، منها: حَذْقُ عمرَ -رضي الله عنه-، وحُسْنِ تأنِّيهِ، وجودةُ فراستِهِ.
وفيه: أنَّه يجوز دفع الصَّائل، وأنَّه لا ضمان عليه في قَتْله حيثُ لم يأمر بالدِّية، والله أعلم.